كيف ومتى ولماذا بدأ وجود "منظمة القاعدة" في إفريقيا؟ وما هي استراتيجيتها وأهدافها في هذه القارة منذ البداية؟ ثم كيف تطور هذا الوجود وهذه الاستراتيجية في قارة إفريقيا؟
إن الضوء الذي ستنيره لنا الإجابة عن هذه الأسئلة كلها سوف يكشف لنا الكثير من الملامح عن آفاق مستقبل "منظمة القاعدة" في إفريقيا.
تحتل قضية التنظيمات المسلحة في إفريقيا مساحة واسعة من اهتمام الساسة والإعلاميين والباحثين لأسباب شتى، لكن يأتي على رأس أسباب هذا الاهتمام الوجود الملحوظ والمؤثر لمنظمة القاعدة في أنحاء إفريقية متعددة؛ فذلك التنظيم المسلَّح هو أبرز تنظيم دولي مسلح في الثلاثين سنة الأخيرة، وهو التنظيم الذي قاده منذ تأسيسه المهندس أسامة بن لادن في ثمانينيات القرن العشرين حتى مصرعه عام 2011م على أيدي قوة خاصة أمريكية هاجمت مسكنه في أبوت آباد في باكستان؛ كما هو مشهور.
مِن الملاحَظ أن منظمة القاعدة في إفريقيا ظلت تستخدم العمل في القارة الإفريقية لتحقيق "التكتيكات" وليس "الاستراتيجية"، وذلك حتى غزو الولايات المتحدة لأفغانستان في نهايات 2001م، وتمثلت هذه التكتيكات أولاً في اعتبار العديد من دول إفريقيا أحد الملاذات الآمنة لاتخاذها قواعد ومحطات يقيم فيها وينطلق منها أعضاء المنظمة، وكعادة منظمة القاعدة فإن هذا لم يمنع قيادة المنظمة من استغلال الهشاشة الأمنية في قارة إفريقيا لشَنّ هجمات مسلحة كبيرة في دولها المختلفة وربما أشهرها حادثتا تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998م، وكذلك استهداف طائرة مدنية إسرائيلية بصاروخين لم يصيباها بالتزامن مع تفجير استهدف فندق برادايس الذي يملكه إسرائيليون، وكلتا العمليتين كانتا في مومباسا في كينيا (28 نوفمبر 2002م)، ومن هنا فاستخدام دول إفريقيا في تكتيكات التخفي والإقامة الآمنة وتوجيه ضربات لمصالح الولايات المتحدة وإسرائيل ظل هو النشاط الأبرز للقاعدة في إفريقيا حتى ذلك الحين.
ولا شك أن منظمة القاعدة استخدمت جسورًا لتنفيذ نشاطها هذا، وهذه الجسور ليست إلا أعضاءها من الأفارقة ممن انضموا إلى صفوفها سابقًا في أفغانستان أو اليمن أو الصومال والسودان؛ حيث كان لها معسكرات تدريب وتثقيف في كلّ هذه الدول في فترات متعددة.
إن النشاط الذي مارسته منظمة القاعدة حتى ذلك الوقت في المجال التكتيكي في إفريقيا فتح للمنظمة الباب لتدخل الى مجالين آخرين من النشاط وهما:
النشاط الأول: هو تجنيد المزيد من الأفارقة لفِكْر المنظمة، ومِن ثَمَّ مساندتها في أنشطتها المختلفة حول العالم؛ حيث تتراكم العديد من العوامل الثقافية والإثنية والاجتماعية والاقتصادية التي تجعل البيئة الإفريقية مواتية أحيانًا لانتشار فكر القاعدة بين المواطنين.
النشاط الثاني: هو النشاط الاقتصادي القائم على عمليات تهريب المعادن والسلاح ونحوهما؛ حيث تزخر قارة إفريقيا بشبكات تهريب لهذه المواد يصل حجم تجارتها لمئات الملايين من الدولارات سنويًّا.
وبينما كانت منظمة القاعدة تتحرك في هذه المجالات التكتيكية جاءت الأحداث المتلاحقة في القارة الإفريقية لتصنع فروعًا لمنظمة القاعدة؛ إذ أعلنت جماعة إسلامية مسلحة([1]) مبايعتها للقاعدة عام 2007م، وأطلقت على نفسها اسم "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وبمرور السنوات انضمت العديد من الجماعات الإسلامية المسلحة الأخرى للقاعدة مثل "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" (JNIM) عام 2017م، والتي تمثل اتحادًا فضفاضًا لعدد من المجموعات أو الجماعات الإسلامية التي تنشط في شرق إفريقيا وفي منطقة الساحل.
وكانت جماعة "شباب المجاهدين" الصومالية قد أعلنت ولاءها لتنظيم القاعدة قبل ذلك (عام 2012م) لتمثل أحد أقوى فروع القاعدة على المستوى الدولي والإقليمي بشرق القارة السمراء.
انضمام كل هذه الجماعات الإفريقية لمنظمة القاعدة فرض عليها أن تتقبل وجود أجندات واستراتيجيات محلية وإقليمية بعد أن كان أسامة بن لادن وخليفته أيمن الظواهري لا يظهر في خطابهم السياسي أي استراتيجية أو أهداف سوى الهجوم على المصالح الأمريكية والإسرائيلية في العالم كله، وبالتالي نجد في أوراق أسامة بن لادن المشهورة باسم "وثائق أبوت آباد"([2]) توجيهات وتوصيات بشأن طبيعة وأساليب العمل الحركي المحلي الذي ينبغي أن تلتزم به الفروع المتعددة لمنظمة القاعدة في مختلف بقاع العالم.
لقد أرجع بعض المحللين ذلك وغيره من توجهات القاعدة ذات الطبيعة المحلية إلى حركة الربيع العربي، ورغبة منظمة القاعدة في ركوب الموجة الشعبية، ولكن في واقع الأمر فإن الأمر ليس كذلك، وإنما الأمر هو أن فروع القاعدة في إفريقيا وغيرها هي منظمات محلية لها أهدافها وأجندتها المحلية([3]). وهذه الأجندات المحلية تمثل مبرر وجودها أصلاً، وبجانب هذا انضمت إلى منظمة القاعدة ابتغاء الحصول على دعم القاعدة لتنفيذ هذه الأهداف والأجندات المحلية، ولا يسعها أن تتخلى عن أهدافها وأجندتها المحلية، وإلا تخلى عنها أغلب أنصارها والمتعاطفين معها، كما أن قيادة منظمة القاعدة المتمثلة في أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ومن معهم في القيادة العليا للمنظمة ازدادت حاجتهم لوجود وانتشار فروع لمنظمة القاعدة حول العالم؛ من أجل إعطاء متنفَّس للمنظمة بعد احتلال الولايات المتحدة لملاذهم الآمن في أفغانستان ومطاردتهم عبر كافة بقاع العالم في إطار ما أُطلق عليه دوليًّا مصطلح "الحرب على الارهاب"؛ فالفروع تحتاج منظمة القاعدة لدعمها فنيًّا ومعنويًّا وأحيانًا ماليًّا، بينما القاعدة بحاجة للفروع لدعمها معنويًّا وفتح متنفَّس لها عبر بقاع شتى حول العالم، لذلك نجد أن بعض المحللين الغربيين يرون أن الإنجاز الأهم لأيمن الظواهري هو بقاء منظمة القاعدة على قيد الحياة حتى الآن بعد كل الحروب والهجمات الأمريكية التي شنَّتها عليها.
وبناءً على ذلك كله نجد أن "منظمة القاعدة" لم يكن بإمكانها أن تُلزم فروعها الإقليمية بالتخلي عن أجنداتها المحلية والتحرك وفق الأجندة التي بنت عليها "منظمة القاعدة" وجودها أصلاً، ومن هنا عملت على تحقيق ما يمكن تحقيقه من استفادة متبادلة بينها وبين هذه الفروع الإقليمية والمحلية.
إن فهم التاريخ ووعي أبعاده المتعددة ينير البصيرة فيعطيها القدرة على رؤية معالم المستقبل، والتأمل العميق لمجمل تاريخ منظمة القاعدة وفروعها في إفريقيا يوضح لنا بجلاء معالم المستقبل.
فنشوء وتطور فروع القاعدة في إفريقيا نتج عن مزيج من هشاشة وفشل الدولة، ووجود مظالم ونزاعات اجتماعية واقتصادية وإثنية، وغياب التنمية السياسية والاقتصادية السليمة في القارة، بجانب وجود قدر من ضعف الفهم والوعي الإسلامي الصحيح، وهذا الضعف مصاحب لعاطفة إسلامية جيّاشة، كل ذلك تفاعل مع التدخلات الأجنبية (الأوروبوأمريكية) لاستغلال القارة ومواردها المهمة لغير صالح المواطنين الأفارقة.
واستمرار نفس العوامل لن ينتج عنه غير نفس النتائج، وهي انتعاش وتمدد جماعات العنف المسلح ومنها القاعدة وداعش، وغيرها.
إن الاقتصار على الحل الأمني ليس سوى تهدئة مؤقتة للظاهرة في البقعة التي تتقوى فيها أدوات القمع الأمني، ولكن سرعان ما ستبرز الظاهرة في بقعة أخرى تتسم بالرخاوة الأمنية، بل سيتم التحايل على القمع الأمني من حين لآخر بأساليب حرب العصابات والذئاب المنفردة المعتادة والمجرَّبة في العالم كله.
إنّ أيّ حلّ شامل وجذري لهذه الظاهرة لا بد أن يشمل الأخذ في الاعتبار لكل أو أغلب المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية للمواطنين، مع نشر العلم الشرعي الإسلامي السليم، بعيدًا عن التشدد أو الانحلال.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا الآن هو:
إذا كانت هذه الخلاصة تستشرف المستقبل من جانب المجتمع والدولة في إفريقيا تجاه ظاهرة "فروع منظمة القاعدة في إفريقيا"؛ فما هو مستقبل هذه الفروع نفسها في إفريقيا؟
إن مستقبل منظمة القاعدة لا يختلف عن تاريخها؛ ما لم تغير أهدافها واستراتيجياتها وأساليبها، ستظل تفشل في بقعة ما، فتنسحب منها إلى بقعة أخرى، وقد تعود للبقعة التي انسحبت منها في حالة ما إذا تغيرت الظروف التي دفعتها للانسحاب، وهكذا كما رأينا سلوكها في العديد من الدول كأفغانستان والشيشان والعراق وسوريا واليمن والصومال والجزائر ومالي ونيجيريا، وغيرها.
-------
([1]) وهي أصلاً امتداد للجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، انظر تفاصيل أخرى في: دراسة ترصد تحركات التنظيمات الإرهابية في القارة الإفريقية، على الرابط التالي: https://cutt.us/337aw تاريخ المشاهدة 24 يونيو 2022م.
([2]) وثائق أبوت آباد هي مجموعة من أوراق أسامة بن لادن التي حصلت عليها الاستخبارات الأمريكية من منزل أسامة بن لادن عند قتله، وتشمل مراسلاته وملاحظاته المكتوبة، وقد أفرجت عن جزء كبير منها في 1 نوفمبر 2017م، ونشرتها، وبالبحث على الإنترنت سيجد القارئ كثيرًا جدًّا من المواد الصحفية والتليفزيونية التي عرضت هذه الوثائق أو جانبًا منها وعلقت عليها، لكن هناك مَن جمع جزءًا كبيرًا منها ونشرها في ملف واحد بصيغة PDF، ومن ذلك ما تجدونه على الرابط التالي: https://cutt.us/0iyBs .. على موقع أرشيف. تاريخ المشاهدة 24 يونيو 2022م.
([3]) هذه الجماعات لها أجندات سياسية واقتصادية محلية بحتة مثل سعي منظمة شباب المجاهدين للاستيلاء على الحكم في الصومال، وسعي فرع القاعدة في غرب إفريقيا والساحل لأهداف سياسية كإقامة دولة تحكم بالشريعة الإسلامية وفق رؤيتهم للشريعة، كما أن لبعضهم أجندة اقتصادية تارة أخرى، والهدف الاقتصادي مهم جدًّا بالنسبة لهذا الفرع فيعتقد الخبراء أن الجماعات المنتسبة إلى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تكسب بشكل مشترك ما بين 18 و35 مليون دولار سنويًّا مع ما تفرضه من ضرائب على شبكات التهريب وعمليات التعدين المحلية.
انظر: Daniel Eizenga and Wendy Williams, The Puzzle of JNIM and Militant Islamist Groups in the Sahel, December 1, 2020 على الرابط التالي : https://cutt.us/EnarA تاريخ المشاهدة 20 يونيو 2022م.