
بَين يَدي الاخْتيار
تُرشد الأدلة الشرعية المتضافرة، والموضّحة باستقراء فهوم الراسخين في العلم، وخلاصات تجارب الأمم وتعاقب الهمم من أصحاب الحُكم، أن المتقدم للشأن العام (رئاسة فما دونها) لا غنى له في الاضطلاع بأعباء الأمانة أن يتحلى بجملة من الأوصاف والسمات، يجب أن تكون هي معايير الاختيار عند التنافس على الولايات والمناصب.
وتجتمع أمهات هذه الصفات فيما يلي:
1- القوة - القدرة – المكانة، ولذلك قال كليم الله موسى لشعيب: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، وقال عزيز مصر في شأن يوسف: (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ).
وتتجلى مظاهر هذه الخاصية في أمور:
- القوة في إيصال الحقوق إلى أصحابها
- القوة في بسط الأمن وتوطين الطمأنينة بين الناس
- القوة في المواقف وأمام الضغوط المتنوعة التي تستهدف مصلحة العباد والبلاد
2- الأمانة، وقد عرضت على السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان، ويظهر أثرها في العلاقات مع الخالق والمخلوق:
- بتقوى الله في خاصة نفسه
- وتأدية الأمانة في حقوق العباد من أموالهم ودمائهم وأعراضهم
3- الحفظ – العلم، وقد اتكأ عليهما نبي الله يوسف في تصديه للتكليف في قوله: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فَسَأَلَهَا بِالْحِفْظِ وَالْعِلْمِ، لَا بِالنَّسَبِ وَالْجَمَالِ، وهو الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك في قصة طالوت (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)
4- الدهاء والتجربة، فنجد الإمام الرازي يعلق على آية القصص بقوله: «الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ لَا يَكْفِيَانِ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا الْفِطْنَةُ وَالْكِيَاسَةُ»
وهكذا تتكامل هذه الخصال التي تختلف مداركها ما بين المستند الشرعي والعقلي والعادي، وما بين الملكات الفطرية والفضائل المكتسبة، لتشكل معالم الشخصية القيادية، وقد أحسن الإمام ابن عاشور الربط بينها وإدماجها تعليقا على الآية الكريمة (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) في هذا القول المختصر:
«وَهَذِهِ صِيغَةُ تَوْلِيَةٍ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنَ الْخِصَالِ، لِأَنَّ الْمَكَانَةَ تَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إِذْ بِالْعِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالْقَصْدِ إِلَيْهِ، وَبِالْقُدْرَةِ يَسْتَطِيعُ فِعْلَ مَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالْأَمَانَةُ تَسْتَدْعِي الْحِكْمَةَ وَالْعَدَالَةَ، إِذْ بالحكمة يوثر الْأَفْعَال الصَّالِحَة وَيتْرك الشَّهَوَات الْبَاطِلَةَ، وَبِالْعَدَالَةِ يُوصِلُ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا»
والملاحظة البديعة في هذا المقام أن ما يظنه الناس "عناصر قوة" حاسمة في المجال - كالاعتماد على الحق التاريخي والتأثير الماليّ – ليس بالضرورة كذلك، لذلك لما اعترض بنو إسرائيل على ولاية طالوت فقالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) رد الله تعالى عليهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).
بل إن الملائكة لما ظنوا أن الطاعة المطلقة لله عز وجل كافية لتقلد ولاية الاستخلاف في الأرض قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) جاءهم الرد من علام الغيوب (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
غير أن المحك الكاشف عن جوهر الاختيار السليم هو كيف يوازن المكلف بين هذه الصفات؟ وما معيار التفضيل والتفاضل بينها إذا تعذر اجتماعها في مرشح أو مترشح كما هو الواقع في أغلب الأحوال والأزمان؟ وهي أزمة متجذرة في شؤون الحكم عبر عنها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحسن تعبير «أَشْكُو إِلَى اللَّهِ ضَعْفَ الْأَمِينِ وَخِيَانَةَ الْقَوِيِّ».
الإجابة على ذلك تقتضي مستوى عاليا من المعرفة المزدوجة بالشرع والواقع معا، وما على المؤمن الصادق إلا بذل الوسع، وتحري الأقرب للصواب، والاستعانة بالأسباب، بعد الملك الوهاب، فإن اتضح له أن في الخيارات المعروضة ما هو أفضل وأجدى اعتنقه والتزمه، وإلا فأقلها شرا وسوءا، والله المستعان.
د. مصطفى بن زين