نشرت مجلة أوراق "بلاتر/Blätter" الألمانية، في عددها الصادر في أغسطس 2024، مقالاً للرأي، بقلم د. أرمين عثمانوفيتش مدير مكتب مؤسسة روزا لكسمبورج الألمانية في تونس بعنوان "سياسة أوروبا في إفريقيا: لا خطة ولا ثقة" قدم خلاله قراءة حول واقع السياسة الأوروبية في القارة السمراء، التي كشفت الحرب في غزة، ثغراتها ونقاط ضعفها، خاصة على الصعيد الشعبي.
يناقش الكاتب موجات العداء السائدة ضد فرنسا في أفريقيا، وهي ليست ظاهرة جديدة. وإنما الجديد انسحاب هذا العداء على ألمانيا، المعروفة بتوجهها المحايد، والذي تجسد في صورة مظاهرات مناهضة لدعمها إسرائيل، إذ يفند الكاتب الدروس التي يجب استخلاصها من ردود الفعل الشعبية في الدول الإفريقية بهدف تعديل المسار بما يتناسب مع مواجهة الهيمنة الروسية في القارة.
نص المقال:
لقد غيرت الحرب في غزة صورة ألمانيا في شمال إفريقيا. هناك مظاهرات اندلعت أمام السفارات الألمانية، كما ألغت المؤسسات السياسية الألمانية تعاونها مع المنظمات غير الحكومية المحلية، وتم طلاء معهد جوته في العاصمة التونسية بالصليب المعقوف ونجمة داود في دلالة على مساندة ألمانيا للصهيونية. ويمكن اعتبار موجة الغضب الموجهة ضد ألمانيا أمرًا جديدًا بالنسبة للسياسيين والدبلوماسيين الألمان، إذ يُنظر إلى برلين، على نطاق واسع، حتى الآن باعتبارها وسيطًا نزيهًا ويتمتع بقدر من الشفافية في إفريقيا.
أما فرنسا، الشريك الأكثر أهمية لألمانيا في إفريقيا، تشهد مثل هذا العداء منذ سنوات: لقد انتشرت المشاعر المعادية لفرنسا في العديد من البلدان الإفريقية لفترة طويلة. ويرتبط ذلك بحقيقة أنه حتى بعد استقلال مستعمراتها السابقة، ظلت فرنسا منخرطة بعمق في سياسات واقتصادات مستعمراتها الإفريقية السابقة – وكانت هذه البلدان، في كثير من الأحيان، تحكمها نُخب ذات اتصالات وثيقة مع القوة الاستعمارية السابقة. يصف مصطلح "فرانس أفريك"، هذه العلاقة الوثيقة، التي حافظ عليها الجانبان رغم أنف معظم الناس في المستعمرات السابقة وغالبًا ما كان يأتي ذلك على حسابهم.
ومع ذلك، لا يزال الكثير من الفرنسيين يعتقدون أن فرنسا تركت وراءها الكثير من الأشياء الجيدة في إفريقيا- مثل المستشفيات والمدارس – وأن الاستعمار كان “مشروعًا حضاريًا”. وفي نوفمبر 2020، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه لا يزال يؤمن بدور بلاده الخاص في إفريقيا عندما تحدث عن نوع من “العلاقة الحميمة” بين فرنسا وإفريقيا في مقابلة أجرتها معه مجلة "جون أفريك". وبالتالي فإن السياسيين والدبلوماسيين والعاملين في مجال التنمية وعدد كبير من الفرنسيين الذين اتخذوا من إفريقيا وطنهم، يشعرون بالغضب والإهانة من الطلب الذي تقدمت به العديد من البلدان الأفريقية بضرورة مغادرة فرنسا أراضيهم.
وتحديدًا، منذ عملية مكافحة الإرهاب في مالي، غرب إفريقيا، يرى الكثير من الناس هناك أن فرنسا قوة وحشية عظمى. وفي أوائل عام 2023، عندما تدخَل الجنود الفرنسيون في مالي، بناء على طلب الحكومة المالية آنذاك والاتحاد الإفريقي لتحرير مدينة تمبكتو من مقاتلي ما يسمى بتنظيم الدولة والمتمردين الطوارق المتحالفين معهم، أرادت فرنسا أن تدير دفة الأمور كافة بشكل مختلف تَجنُبًا للأخطاء السابقة. لكن الوضع الأمني العام في مالي، وكذلك في الدول المجاورة؛ مثل بوركينا فاسو والنيجر، سرعان ما أخذ في التدهور، حيث ارتكبت الجيوش الوطنية، التي كانت، في كثير من الأحيان، لا تحظي بالتدريب اللائق ويغلُب عليها الفساد، انتهاكات لحقوق الإنسان. ويتساءل المزيد من الناس عن فحوى انتشار القوة الاستعمارية السابقة ويشككون في أن فرنسا عادت مرة أخرى فقط من أجل تحقيق مصالحها الخاصة ليس أكثر. كما كانوا على يقين من أن الجنود الفرنسيين وراء انتشار انعدام الأمن والعنف ويستغلون الموارد المعدنية مثل الذهب واليورانيوم في ظل شيوع الفوضى. لقد أصبحت نظريات المؤامرة قوية للغاية لدرجة أنه لم يمض وقت طويل قبل أن تطيح الحكومات العسكرية الجديدة في منطقة الساحل بالعسكريين والدبلوماسيين الفرنسيين. وقد أعلن نظام عسكري تلو الآخر، أولاً في مالي، ثم في بوركينا فاسو، وأخيراً في النيجر، طرد فرنسا باسم استعادة السيادة الوطنية وسط هتافات متعالية من الناس في الشوارع.
عثمان سونكو، رئيس الوزراء الذي لا يُبدي الكثير من التعاطُف مع باريس ويعتبر نفسه مُناصرًا للوحدة الإفريقية ومحافظًا على التقاليد، تولى أيضًا السلطة في السنغال منذ أبريل 2024، حيث تهيمن المشاعر المعادية لفرنسا بين السكان السنغاليين، لأن فرنسا دعمت الرئيس الاستبدادي السابق "ماكي سال" لفترة طويلة.
كما أن الشركة الفرنسية "توتال إنيرجييز" تنشَط في تجارة الغاز المشبوهة. لكن الوضع هنا يختلف عما هو عليه في البلدان المجاورة: فالسنغال لا يحكمها مجلس عسكري، وإنما حكومة مُنتخَبة تتمتع بالاستقلالية. بالإضافة إلى ذلك، حافظ العديد من الأشخاص على علاقات وثيقة مع فرنسا على مدار عدة أجيال، وذلك أيضًا بسبب وجود أقلية فرنسية كبيرة تعيش في البلاد. وأخيرا، يتعين على أي حكومة في داكار أن تتعاون مع الطُرق الصوفية ذات النفوذ، والتي لا تشتهر بمواقفها المعادية للفرنسيين.
إن الأصوات الناقدة في إفريقيا التي تتهم الأوروبيين بأنهم مهتمون فقط باستغلال القارة المجاورة والسيطرة عليها، مخطئون عندما يفترضون أن سياستهم في إفريقيا تسعى إلى تحقيق خطة طويلة الأجل. بل إن الحكومات في إفريقيا، وكذلك في فرنسا، مدفوعة بالدعاية التي يروجها القوميون، حيث يحرضون ضد المهاجرين والواردات الرخيصة في الأسواق المحلية ويقدمون وعودًا باستعادة السيطرة والسيادة. وفي نظر من هُم في السلطة، فهذا الأمر أثقل وزنًا من أي سياسة عقلانية تجاه إفريقيا ظلت تدافع عنها المنظمات غير الحكومية في ألمانيا وفرنسا لسنوات – على سبيل المثال، عندما يشكون من أن العدد المتزايد من اللاجئين مرتبط بتدمير سبل العيش في إفريقيا جراء الاحتباس الحراري العالمي، والصادرات الزراعية، وسياسات الصيد.
لكن هذا الاستسلام في الداخل أصبح يمثل مشكلة متصاعدة. ففي سياق الحروب الحالية والمواجهة مع روسيا، سيترتب على فقدان الثقة والمصداقية في إفريقيا عواقب وخيمة من شأنها أن تلقي بظلال ثقيلة على مكانة وسُمعة الحكومات الأوروبية في العالم. علاوة على ذلك، اكتسبت الدعاية الروسية بالفعل زخمًا في مختلف أنحاء القارة الإفريقية، حيث زعمت أن الحكومات الغربية مسؤولة عن الحرب في أوكرانيا، وأن فرنسا وحدها هي المسؤولة عن شقاء إفريقيا.
وعلى هذا النحو، تسبب طرد الفرنسيين من مالي وبوركينا فاسو والنيجر في ترك طرفاً ثالثاً أساريره منفرجة: ألا وهي روسيا. وينطبق ذلك تحديداً على مالي، التي يعمل نظامها العسكري على استرضاء الكرملين باسم السيادة الوطنية. لا يبدو الأمر وكأن الناس، مؤخراً، أصبحوا ودودين بشكل خاص تجاه روسيا، حتى مع رؤية العديد من الأعلام الروسية وصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في المظاهرات المناهضة لفرنسا. بل إن المجلس العسكري في هذه الدول يعتمد على مساعدة مرتزقة مجموعة فاجنر- التي أعيد تسميتها الآن باسم "فيلق إفريقيا"- في حربه ضد المسلحين والمتمردين الطوارق.
ولكن يختلف الوضع في شمال إفريقيا بعض الشيء. لقد ظلت العلاقات بين الحكومات المحلية هناك وباريس مستقرة إلى حد كبير- على الرغم من كافة المشاكل الاقتصادية والسياسية. ولم تغير الحرب بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة ودعم باريس وبرلين لإسرائيل هذا الوضع. لكن على المستوى الشعبي، وخاصة المجتمع المدني المُنظم، تبدو الأمور مختلفة تمامًا. إن الدعم الغربي لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة يثير حفيظة العديد من الناس؛ كما تبدو الخطابات الغربية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وكأنها شعارات جوفاء في آذان الكثيرين، وتحديداً، الشباب.
علاقات يشوبها التوتر أغلب الوقت:
إن علاقات الاتحاد الأوروبي مع شعوب شمال إفريقيا يشوبها التوتر والاضطراب أيضًا بسبب سياسة الهجرة الأوروبية. وهذا يثير انزعاج الكثيرين، لأن إجراءات التأشيرة أصبحت عملية مهينة، على نحو متزايد. وفي الأغلب، لا يتمكن المتقدمون من الحصول على الوثيقة المرغوبة إلا من خلال العلاقات الشخصية فقط. ورغم أن العديد من مواطني شمال إفريقيا من بين أولئك الذين يستقلون القوارب إلى أوروبا، إلا أن سياسة حكومات هذه الدول لمنع الهجرة غير النظامية تركز، في المقام الأول، على اللاجئين من بلدان جنوب الصحراء الكبرى. فالجزائر، على سبيل المثال، تلتقط العديد من هؤلاء الأشخاص وتحضرهم إلى الحدود مع النيجر، حيث تعتني بهم منظمات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة.
ولكن حتى لو تحدث المستشار الألماني، أولاف شولتس، لصالح "عمليات الترحيل واسعة النطاق" في مجلة "شبيجل": على عكس رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي أصبحت ضيفة دائمة في تونس بسبب الهجرة المستمرة من هذا البلد وتدفع من أجل الدفاع عن سياسة الهجرة على المستوى الدولي في إطار مجموعة السبع، فإن برلين وباريس ليستا المحركين الرئيسيين لسياسة العزلة هذه. من خلف الكواليس، تحاول الحكومة الفيدرالية اتباع سياسة أكثر برجماتية تأخذ في الاعتبار أيضًا حاجة اقتصادها إلى العمالة الماهرة. والهدف من ذلك هو استخدام مراكز الهجرة التي تديرها جمعية التعاون الدولي (GIZ) ليس فقط لدمج العائدين في إفريقيا، ولكن أيضًا لاستقطاب العُمال المَهرة وتصديرهم إلى ألمانيا، على سبيل المثال في غانا ومصر والمغرب وتونس. كما تتبنى باريس أيضاً نهجاً جديداً تماماً في التعامل مع إفريقيا. فالناس هناك يعربون بفخر عن تزايد أعداد التأشيرات. أما في الداخل، وبدافع من القوى القومية المتنامية، يؤكدون أنهم يفعلون كل ما في وسعهم لردع المهاجرين.
كما تفرض سياسة الاتحاد الأوروبي الزراعية والسمكية ضغوطًا على العلاقات بين إفريقيا وأوروبا، إذ تشكو المنظمات غير الحكومية الإفريقية والأوروبية على مدار سنوات من الصيد الجائر في المياه الإفريقية، وهو ما يساهم الإضرار بمستقبل العديد من الأسر على السواحل الإفريقية وافتقارها لفرص العمل. وتدفع صادرات الاتحاد الأوروبي الزراعية إلى إفريقيا العديد من الناس إلى البطالة والفقر. وفي حين أدت السياسة الأوروبية أخيرًا إلى نجاحات تجارية للمزارعين في شمال إفريقيا، إلا أن الضغوط الناجمة عن احتجاجات المزارعين الأوروبيين تهدد بتغذية فرص إقامة حواجز تجارية جديدة.
وفي نهاية المطاف، من المرجح أن يؤدي فشل الاتحاد الأوروبي في احتواء أزمة المناخ، بشكل فعال، إلى زيادة الضغوط على العلاقات بين القارتين. ولا يزال الكثيرون يموتون في صمت جراء درجات الحرارة القاسية والجفاف في قارة إفريقيا، لأن الوفيات الناجمة عن تغير المناخ نادرَا ما تُسجَل. وعلى الرغم من الزيادة المتوقعة في وتيرة الأحداث الجوية المتطرفة، من المرجح أن يُطرح سؤال المسؤولية عن ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، بشكل متكرر، في المستقبل. إن الأضرار هائلة بالفعل: ففي ليبيا، على سبيل المثال، توفي ما لا يقل عن 11 ألف شخص في سبتمبر 2023 بسبب الأمطار الغزيرة التي دمرت مدينة بأكملها.
من أجل بداية جديدة في السياسة الإفريقية:
ولكن كيف قد تبدو سياسة البداية الجديدة في إفريقيا بحيث تتمكن من استعادة الثقة المفقودة وخدمة شعوب القارتين؟
في باريس، لابد أن تبدأ مثل هذه البداية الجديدة بإدراك أن سياسات النفوذ القديمة قد انتهت. وكخطوة أولى، يجب على باريس الانسحاب من العٌملة المشتركة المثيرة للجدل، الفرنك الإفريقي، في غرب ووسط إفريقيا، وبالتالي إنهاء ارتباطها باليورو. ثانيًا، لقد تقادمت أيضًا اجتماعات القمة المشتركة بين الرئيس الفرنسي ورؤساء الدول والحكومات الإفريقية. وبدلاً من ذلك، ينبغي للمجتمعات المدنية والشباب أن يجتمعوا معًا. وكانت الخطوة المهمة في هذا الاتجاه هي قمة 2021 في مونبلييه وإنشاء مؤسسة الابتكار من أجل الديمقراطية برئاسة المؤرخ أشيل مبيمبي. وتهدف هذه المنظمة الإفريقية غير الربحية إلى المساعدة في خلق نماذج جديدة من الديمقراطية راسخة في الثقافات الإفريقية.
ثالثاً، يتعين على فرنسا أن تقول وداعًا للسياسة الأمنية المستقلة في إفريقيا. ولابد من إغلاق القواعد العسكرية المتبقية، والتي تشكل سببًا للاتهامات المستمرة باستخدام فرنسا هذا الأسلوب لتأمين النفوذ في القارة. وينطبق هذا، بطبيعة الحال، أيضًا على ألمانيا، التي تحاول الحفاظ على جناحها العسكري في البلاد بعد طرد فرنسا من النيجر. ولا شك أن المخاوف بشأن انتشار منطقة العنف في غرب إفريقيا وتدفقات الهجرة الناتجة عنها نحو أوروبا ليست بلا أساس. ولكن نشر القوات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل أظهر أن فرنسا وألمانيا بطبيعة الحال تفتقران إلى الإرادة اللازمة لضمان الأمن في إفريقيا على أرض الواقع. وفي ضوء الحرب في أوكرانيا، فإن الوسائل العسكرية اللازمة لتحقيق ذلك غير متوفرة الآن. وفي ضوء ذلك، فقد حان الوقت لإرساء سياسة أمنية ألمانية فرنسية مشتركة في إفريقيا.
رابعاً، يتعين على باريس وبرلين بذل المزيد من الجهود للتصالح مع إرث الاستعمار وعودة الأصول الثقافية الإفريقية. ومن المؤكد أن إنشاء متحف تاريخي مشترك عن الاستعمار داخل مباني في باريس وبرلين، وإقامة معارض مؤقتة في هذه المتاحف وكذلك في المدن الإفريقية، وتشكيل لجنة مشتركة من المؤرخين مع زملاء من إفريقيا، من شأنه أن يشكل إشارة مهمة للمجتمع المدني الإفريقي والشتات بأن باريس وبرلين جادتان في الحوار. خامساً، لابد أن يكون الهدف إنشاء منظمة شبابية تقدم برامج تبادل ثقافي وجامعة ألمانية فرنسية لحماية المناخ للطلاب من إفريقيا في ستراسبورغ ومدينة كييل الألمانية. سادسًا وأخيراً، ينبغي تعميق التعاون المؤسسي بين الخدمات الدبلوماسية في البلدين، ووكالات التنمية AFD وGIZ، وكذلك المعاهد الثقافية؛ المعهد الفرنسي ومعهد جوته في إفريقيا. ولابد أن ترتكز كل هذه المبادرات على معاهدة موسعة بين ألمانيا وفرنساــ وتنص المادة السابعة من “معاهدة آخن”، بالفعل، على التعاون بين البلدين وإفريقيا. إن الهدف من كل هذا هو استعادة الثقة المفقودة. وإلا فإن القارة تخاطر بالابتعاد أكثر فأكثر عن أوروبا متجهة نحو أنظمة أخرى مثل روسيا أو الصين.