مذكرات سجين لدى البوليساريو .(قصص من الأسر والعذاب) الحلقة 3

ثلاثاء, 03/03/2020 - 07:39

السجين السابق محمد فال ولد القاضي - استمرت الرحلة أكثر من خمس ساعات لنصل حوالي الساعة العاشرة ليلا إلى تلك المدينة (بولا) التي أصبحنا فيما بعد نرمز باسمها إلى بداية فصل من أية قصة بائسة ، وكنا قد وصلنا إلى أقصى درجات التعب التي يمكن أن يتحملها الجسم البشري ، وفي الطريق كانت احدى المسافرات قد تبرعت لنا بفاكهة لم نر مثلها من قبل وبعد تناولنا لها أصيب بعضنا بالاسهال وآلام في البطن مما فاقم المعاناة . غير أن كثرة محطات توقف الحافلة وكثافة الأشجار كان في صالح المصابين منا وفوق هذا كله كنا الأربعة نعاني من صداع فظيع بسبب عدم تناول الشاي طيلة ذلك اليوم .

كنا نعتقد أننا حين نصل هذه المدينة أنه بستطاعتنا مواصلة الطريق إلى العاصمة (بيساو) والبحث عن مكتب البوليساريو لتنتهي رحلة العذاب هذه إلا أننا أدركنا بعد نزولنا في المحطة أن ذلك الهدف لن يتحقق إذ لا توجد سيارة واحدة في تلك المحطة فوقفنا مشدوهين وكأن قدرتنا على التفكيروالتصرف قد شلت ولولا روعة وحيوية (قائدنا أمان ولد الخالص) لكان بعضنا أصيب بالانهيار حيث ذهب للبحث عن شخص يمكن التواصل معه وبالفعل فقد نجح في الأمر إذ عاد ومعه شاب يبدو أنه من أهل المدينة يتحدث فرنسية محروقة ولكنها كانت أكثر سلاسة من لغة الإشارة ففهمنا منه أنه سيدلنا على "أحد أقاربنا" ويقصد بصلة القرابة تلك أنه موريتاني وهو صاحب محل تجاري يوجد بالقرب من المحطة ، وفي الطريق ونحن نسير خلف دليلنا اتفقنا أنه في حالة ما إذا سألنا هذا "القريب" عن وجهتنا ندعي أننا ذاهبون لزيارة قريب لي أنا يعمل في السفارة الموريتانية في غينيا بيساو وقد اتضح لنا فيما بعد أنها كانت كذبة ابريل فالعلاقات الديبلوماسية بين البلدين مقطوعة منذ بعض الوقت على خلفية اعتراف الحكام في بيساو بالبوليساريو إبابان حرب الصحراء .

وصلنا إلى المحل المقصود فاستقبلنا صاحبه بالترحاب وكأنه قرأ في وجوهنا ما بنا من تعب وعطش وجوع إذ دخل بسرعة إلى غرفة ملحقة بالمحل وخرج يحمل حصيرا كبيرا بسطه أمام المحل ثم عاد وأتى بمخدات وضعها على الحصير وهو يخاطبنا بأن تفضلوا ، وما كدنا نجلس حتى كان عماله قد أحضروا لنا قداحا ملأى بالمذيق البارد فشربنا منه حتى كدنا نتواصل بالإشارة وكانت تلك الشربة بالنسبة لي آخر عهدي بالمستيقظين حيث غططت في نوم لم يقطع حلاوته سوى مذاق كأس من الشاي أيقظني ذلك السيد ليضعه في يدي ، وليته كان يعلم أنه كأنما وضع الدنيا بمتاعها في تلك اليد ، والغريب في ذلك الرجل هو أسلوبه النفسي والانساني في التعامل معنا ففي ما يبدو أنه تحاشي لازعاجنا لم يسألنا عمن نكون ولا عن وجهتنا إلا بعد أن تناولنا طعام العشاء وعادت لنا الحياة  وبدأ هو في إعداد الشاي من جديد وحين أخبرناه بالوجهة التي اتفقنا على أن نخبره بها ضحك وقال ؛ على العموم مرحبا بكم ولستم المجكوعة الأولى التي تمر بنا متجهة إلى الصحراء أما سفارة موريتانيا فقد مضى عليها وقت وهي مغلقة ثم تساءل ممازحا إن كانت قد فتحت من جديد ؟.

وبطبيعة الحال لم يكن الرجل ينتظر منا جوابا وساد الصمت إذ لم يعد ما يمكن قوله بعد كذبة ابريل تلك ونحن يومها في العشر الأواخر منه ، وبعد أن أكمل الشاي اصطحبنا إلى داره التي كانت خالية من السكان ومؤثثة جيدا ثم زودنا بكل ما نحتاجه من أغطية وماء للشرب لو احتجنا إليه وتركنا لنغيب عن العالم في نوم عميق .

يتواصل ..................

 

في الصباح الباكرايقظنا ذلك السيد (السيد) وطلب منا أن نلحق به في الدكان فوجدناه قد هيأ الشاي وشرائح لحم مشوية ومذيق بارد وبعد أن أكملنا فطورنا اصطحبنا إلى الشارع وبقي معنا حتي ركبنا وتحدث مع السائق كي يوصلنا مقصدنا ثم ودعنا متمنيا لنا السلامة دون أن يبوح لنا بشئ سوى أنه من سكان مدينة كرو في الوسط الموريتاني .

لم تكن المسافة الفاصلة مدينة (بولا) والعاصمة (بيساو) تبلغ أكثر من ستين كيلومترا والطريق كان معبدا، لذلك وصلنا مبكرا ، لذلك وصلنا مبكرا فطلبنا من السائق أن ينزلنا في السوق لعلنا نجد أحدا يمكننا التواصل معه ويدلنا على مكان وجود مكتب البوليساريو ، لكن كل الذين التقيناهم يبدو ان لا علم لهم بوجود أي شئ سوى ما هم فيه من بيع وشراء فقررنا أن نبحث عن السفارة الليبية لعلمنا أن ليبيا يومها تعد من أهم الداعمين للبوليساريو وربما لأن بعضنا يعتنق "النظرية العالمية الثالثة" و ليبيا بالنسبة له مفتاح الفرج لكل التائهين .

في الطريق وأعيننا في الأعلى بحثا عن راية خصراء قابلتنا بوابة معسكر يحرسها جندي فارتأى أحدنا أن ذلك الجندي هو من سيدلنا على الطريق وليت الذي ارتأى منا الرأي ما ارتأى فحين سألناه أشار لنا بأن ننتظر ثم سد البوابة ودخل وكنا نعتقد أنه ذهب ليحضر من سيرافقنا ، لكنه لم يعد حتي كانت سيارة لاندروفير تقف أمامنا وينزل منها جنود ويأمروننا بالصعود ومع أن الأمر جاء مفاجئا وصادما إلا أننا لم نرتبك وصعدنا بهدوء ثم صعد الجنود معنا باسلحتهم ثم انطلقت السيارة وبعد عدة دورات دخلوا بنا من باب خلفي لمخفر للشرطة وأمرونا بالنزول ثم ساقونا إلى الداخل لنجد في استقبالنا من بدا أنه آمر المخفر وكان لحسن الحظ يتكلم الفرنسية وحين بدأ متحدثنا (أمان ولد الخالص) يروي له قصتنا وقبل أن يوضح له أي شئ رن هاتف مكتبه فرد على المتصل وخرج مسرعا بعد أن أمر شرطيا بحراستنا وأن يسد الباب .

مرت عدة ساعات ونحن في وضع لا أعتقد أن أحدا يحسدنا عليه ، نحن مخفر للشرطة وشرطي يقف فوق رؤوسنا ولا نعرف سبب إقافنا ، آمر المخفر ذهب ولم يعد ، الشرطي الذي يحرسنا رفض السماح لأي منا بالخروج من أجل شراء السجائر التي نفدت منا ويومها كان ثلاثة منا من كبار آكليها حتى لا أقول من مدخنيها وذلك موقف لا يقدره إلا المدخنون ، وأمام هذا الوضع القاتم لم تبق فكرة سوداء يمكن أن تخطر على البال إلا وفكرت فيها فبدأت ، غير أنه من حسن الطالع أن صوت ذلك الآمر قطع حبل أفكاري السوداء وهو يدخل علينا معتذرا عن التعطل كل هذا الوقت بسبب ما قال إنه استدعاء للإشراف على حادث مرور وقع بالتزامن مع دخولنا عليه .

بدأ الاستماع إلينا من جديد وبعد أن شرحنا له سبب وجودنا رفع سماعة الهاتف واجرى مكالمة بعدها بدقائق قليلة كانت سيارة تابعة لمكتب البوليساريو تقف أمام الباب ونزل منها شخصان ، أحدهما ولد ابنيجارة وهو مسؤول المكتب بينما لم يكن الشخص الثاني سوى (فريد) أو أحمد سلامه ابريك الذي فر بالسيارة من الحدود وتركنا نواجه المشاق مدعيا أننا تأخرنا واعتقد أنه "قبض" علينا ، ولم نكن يومها نعرف أنه سيأتي اليوم الذي ستدمي فيه سوطه أجسادنا دونما شفقة ودونما ذنب اقترفناه .

نقلا عن صحيفة السفير :