الساحل: هل يعرف المانحون الميدان؟

ثلاثاء, 08/03/2021 - 11:40
دول الساحل الإفريقي

في حديث له مؤخرًا؛ أشار الأكاديمي جان بيير أوليفييه دي ساردان إلى نقص معرفة المانحين في المجال الذي يعملون فيه. لكن ألا يعاني الفاعلون في مجال التنمية بشكل خاص من عدم القدرة على حَشْد معرفتهم الميدانية في تصميم وتنفيذ أنشطتهم؟

 

هل المتبرعون غافلون عن حقائق منطقة الساحل؟؛ هذا ما قاله جان بيير أوليفييه دي ساردان في منتدًى عُقِدَ مؤخرًا دعا فيه أصحاب المصلحة خارج منطقة الساحل إلى التفريق بين جهود كلّ من الجيش والفاعلين والمطوّرين. ووفقًا لتحليله؛ فإن الفاعلين المعنيين "يصطدمون بنفس تحديات السياق المحلي التي يجهلونها، والتي تتحول غالبًا إلى انتقام من السياقات المعنية"؛ على حد تعبيره.

 

المانحون: كومة من المعرفة

 

جديرٌ بالذكر أن ملاحظة عدم الكفاءة لدى الفاعلين في التنمية لاستيعاب السياق المحلي، والمتمثلة أيضًا في واحدة من الأطروحات الرئيسية والمستوحى منها عنوان أحدث مؤلفاته "انتقام السياقات"؛ وهو كتابٌ يحتوي خلاصة عدَّة عقود من البحث الميداني في هذا المجال.

 

وتجدر الإشارة إلى أن جان بيير أوليفييه دو ساردان تطرَّق إلى جزءٍ محدَّدٍ، ولكنَّه مهمّ، ولا سيما في منطقة الساحل، من نشاط المانحين الذي يسمّيه بـ"الهندسة الاجتماعية"، والذي يعرِّفه على أنه "جميع آليات التدخل المخطَّط له والتي يضعها الخبراء بهدف إنشاء أو تعديل المؤسَّسات أو السلوكيَّات في سياقات مختلفة ."

 

لكن؛ ما من شك أن هذه الأطروحة تثير قلق المانحين؛ فهل يمكن التصوّر أن يكون المانحون جاهلين بالميدان، ولا سيما منطقة الساحل، على الرغم من امتلاكهم مجموعات مهمَّة على الأرض، وحيازتهم    داخل مؤسساتهم على أقسام لإنتاج البحث والمعرفة، فضلاً عن أنهم غالبًا ما يشاركون في بنك المعرفة أو المؤسسات التعليمية؟ دون أن ننسى أن مواردهم تُتيح لهم الوصول إلى أفضل المتخصصين وأفضل المعلومات. فضلاً عن أننا في وكالات التعاون، نسمع في كثير من الأحيان عن الأسف لتراكم الدراسات والمعلومات والمعرفة من جميع الأنواع بخلاف نُدْرَتها.

 

موضوع قديم قِدم التنمية:

 

بالتأكيد يُعتبر نوع المعرفة التي يفضّلها المانحون العنصر الأول للإجابة، ويعطي حيّزًا كبيرًا للتحليلات الكلية والاقتصاد، والمقارنات الشاملة للقطاعات، وغيرها. كما يمكن أن يؤدي هذا إلى التقليل من قيمة ضرورة المعرفة التفصيلية لنوع اجتماعي أنثروبولوجي خاص بمناطق معينة.

 

لكن في الواقع هناك توصية معروفة ومتكررة داخل منظمات التعاون لتنظيم استخدام المعرفة الميدانية عند تصميم وتنفيذ إجراءات التعاون كما تندرج "الممارسة الجيدة" ضمن الإجراءات المتعلقة بدراسات السياق المنهجية التي تسبق العمليات، والتي يتم الترويج لها على نطاق واسع في المناطق الهشَّة.

 

ويرجع أثر إدراج "خبير" بالمجال في فِرَق المشروع إلى وقتٍ مبكرٍ من عام 1951م فيما يتعلق ببرامج المساعدة الأمريكية في الهند (لويس مينيير "استخدام علماء الأنثروبولوجيا في برامج المساعدة الخارجية- منظمة الإنسان- المجلد 23، 1963م). وهي أيضًا فكرة متكررة في أشكال مختلفة.

 

ويجدد جان بيير أوليفييه دو ساردان ذلك في كتابه من خلال التوصية باستخدام "خبراء سياقيين" فاعلين محليين وقادرين على اتخاذ خطوة إلى الوراء وعملاء للتغيير. ويمكننا فقط الاشتراك في هذا النوع من النظام الذي يجعل من الممكن تعزيز المعرفة الميدانية ضمن إجراءات التعاون، ولا سيما في الشكل المبتكر الذي أوصى به جان بيير أوليفييه دي ساردان.

 

لكنَّ هذا النوع من الارتباط غالبًا ما يكون صعبًا في الممارسة العملية؛ حيث يكافح ذوو الخبرة الميدانية من المحليين لإيجاد مكانهم في أنظمة التشغيل. ويقودنا هذا إلى الأطروحة المركزية لمناقشتنا: إنَّ مشكلة المانحين لا ترجع أساسًا إلى نقص الوصول إلى معرفة الميدان، بل في القدرة على تعبئة هذه المعرفة في نشاطها التشغيلي، وهناك آليتان لشرح هذه النتيجة.

 

المساءلة تهجر الميدان:

 

تنبثق الآلية الأولى من طبيعة المساءلة عن أعمال التعاون في جميع مراحل التدخل الإنمائي (من التصميم إلى النتائج)، ويتم إنتاج وفحص العديد من تدفقات المعلومات (مذكرة المفاهيم، مذكرة المشروع، جداول المؤشرات، التقارير، التقييمات، إلخ) بشكل جماعي لتغذية عملية المساءلة المعنية.

 

لكنَّ تكثيف وتعقيد تدفقات المعلومات -بلا شكَّ- ظاهرة مدهشة مشتركة بين جميع الجهات المانحة في العقود الأخيرة. ولكن فيما يتعلق بالتعاون مع بلدان مثل دول الساحل؛ فإن سلسلة المساءلة تمتد فقط إلى الهيئات الخاصة بالجهات المانحة والجهات المكونة لها: الهيئات العليا، ولجان صنع القرار، والوزارات التنفيذية، والبرلمانات، والمجتمع المدني، إلخ.

 

وهذا الاختلال في المساءلة له تأثير على معالجة المعلومات والمعرفة: المعرفة الخاصة -المعقدة وغير المألوفة لهذه الهيئات- بالسياق، غالبًا ما توضع في منافسة مع جميع أنواع المعلومات ذات الطبيعة المختلفة: استراتيجية تحديد المواقع، ولوحة النتائج، والأولويات القطاعية أو الموضوعات، والطبيعة المبتكرة، والتكامل مع السياسات أو الإجراءات الأخرى، والتأثيرات المتوقعة، وغيرها. كما أن اللامركزية في المناقشة والقرار من بداية وطوال مراحل التدخل داخل الهيئات "البعيدة" التي لها أجندتها الخاصة، تُؤدّي تدريجيًّا إلى تصفية تعبئة المعرفة التفصيلية الخاصة بالميدان المعنيّ.

 

نقص مفيد في المعرفة بالميدان؟

 

والآلية الثانية هي جزء من الأولوية الممنوحة في ثقافة مؤسسات التعاون للعمل على المعرفة. وفي الوضع المثالي، تساعد الإحاطة بجميع الأبعاد في تسهيل عملية التدخل بشكل أكبر؛ لأننا نعرف جميع أبعادها. لكنَّ الوضع مختلف تمامًا فيما يتعلق بالهندسة الاجتماعية، لنتذكر أنَّنا نتحدث عن هذا فقط هنا، يمكن أن يكون للمعرفة التفصيلية للميدان تأثير في التشكيك في الإجراء، وقد يؤدي إلى تعطيله. وقد ذهب بعض المحللين على غرار (مارك هوبارت أو جان بيير جاكوب) إلى حدّ إثارة حجاب الجهل كمُيَسِّر للعمل.

 

وفي حين أن نظرية التغيير المبسَّطة يمكن أن تُسلّط الضوء بسهولة على التأثيرات الإيجابية للتدخل، فإن المعرفة المتعمقة للسياق يمكن أن تجعل القرارات والتقييم أكثر صعوبة نتيجة تعقيد الحقائق الميدانية. وكيف نتصرف بشكل جيد عندما نعلم أن التدخل سيؤدّي إلى فائزين وخاسرين، وأن تأثيره على العلاقات بين المجموعات سيكون مترددًا أو أن الحوافز سيتم تجاوزها جزئيًّا، إلخ؟

 

ومن هذا المنطلق، غالبًا ما يكون التصرُّف بمعرفة كاملة بالحقائق أكثر صعوبة من فهم الميدان في شكل حقائق صغيرة ومُقسَّمَة. وعلى الرغم من ذلك تجد هذه "المفارقة" حدودها بالتأكيد. وإذا كان من الإمكان أن تكون المعرفة مزعجة؛ فذلك لأنها يمكن أن تؤدي إلى طرق للتدخل غالبًا ما تخرج -نظرًا للقيود التشغيلية- خارج نطاق الاستجابات القابلة للتعبئة.

 

وفي الواقع، إذا كان من الممكن أن تتعارض المعرفة مع إجراء في مجال الهندسة الاجتماعية؛ فذلك لأنه غالبًا ما يؤدّي إلى التوصية بأفعال معقَّدة ومتواضعة ومثابرة ومفاوضات ومخاطرة ومحلية وإبداعية بالامتياز للدخول إلى ميدان الفاعلين في التنمية. ومن أجل فتح المجال أمام إمكانية لهذه الإجابات المحددة، يجب أن تكون معرفة السياق مشروطة بتعريف مجال الاحتمالات باعتبارها شرط تعبئتها الكاملة. وبخلاف ذلك، فإنه غالبًا ما يكون موضوع الاستخدام "الأداتي" والمحدود، أي أنه يتم تعبئته فقط عندما يحدّد أو يكمّل أو يُضْفِي الشرعية على عمل محدَّد مسبقًا جزئيًّا.

 

نحو تعبئة أفضل للمعرفة:

 

من المرجَّح أن تُسلّط هاتان الفرضيتان -المساءلة غير المتوازنة وأولوية العمل على المعرفة- الضوء على مفارقة الجهل (الواضح) للمجال مِن قِبَل المانحين. ويُعْتَقَد أن هذه الآليات كانت في جزء منها مصدر نجاح "نماذج الركاب" التي لم تتكيَّف كثيرًا مع المجال والتي حلَّلها جان بيير أوليفييه دي ساردان في كتابه.

 

وسيكون من المثير للاهتمام، متابعة الفرضية الأولية لجان بيير أوليفييه دي ساردان، الذي رسم المقارنة بين المطورين والعسكريين، للتساؤل عما إذا كانت فرضيات المساءلة غير المتوازنة وأسبقية العمل، ناتجة عن تجربة الهندسة الاجتماعية للتنمية، لها أيضًا قوة تفسيرية في مجال التدخلات العسكرية.

 

لكن يمكن استنتاج طرق معالجة هذا القصور في حشد المعرفة الميدانية من التشخيص. كما أن إعادة التوازن في المساءلة لصالح الجهات الفاعلة المحلية هو السبيل الأول الذي يتطلب ألا يكون الفاعلون في الميدان مجرد مزودي المعلومات، بل صنّاع قرار مشتركين في مسائل الهندسة الاجتماعية. والمسار الثاني هو انعكاس صلة الأسبقية بين المعرفة والعمل، والذي من شأنه أن يؤدي -بتوجيه من القراءة الميدانية- إلى فتح مربع طرائق التعاون على نطاق أوسع وعلى وجه الخصوص إلى ما هو أبعد من المشروع.

ولكن هل سيكون بمقدورنا هذه المرة الانتقام من السياقات؟!

*بقلم: جان دافيد نوديه

*ترجمة: سيدي. م.ويدراوغو