ولد الحاج الشيخ يكتب: قول على أقوال

جمعة, 08/13/2021 - 19:30
الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ

قرأت قبل أسابيع مكتوبا خلاصته أن الرجل الأديب اللبق والكاتب المميز، يُرجع حالات الميوعة العقدية الحالية إلى فقه التيسير، ويحن إلى مظاهر التدين التقليدي القائمة على منهجية فهم الفرد وأدبيات أهل البادية المبنية على فقه الأحوطيات... بعيدا عن فقه التحضر والمدنية الذي ينزع عادة إلى الرفق والواقعية، ويأخذ الناس بالأيسر ويستفيد من تعدد الفتوى ولا يغالب توقان الإنسان المشروع للحياة والجمال.

 

كما اطلعت على مقالات متعددة لعدد من الكتاب والمهتمين بعضها يتساءل عن الحركات الإسلامية الوسطية وحجم انسجامها مع المثل والقيم التي انطلقت من أجلها...والبعض يتمنى أن تكون زالت وامحت من الخريطة

ولقد ألح علي سؤال مهم وهو: ماذا تريد النخبة منا؟ وماذا يبتغي منا أهل الرأي؟ ..

 

فأن يكتب الأول بما يشي برفض فقه التيسير والتكيف مع الحياة المعاصرة، ويُحمل التجديد الإسلامي مسؤولية الإلحاد، متجاوزا بذلك مشارب فكرية تدعو صراحة لرقة التدين والتشكيك في المغيبات!.

 

ثم يكتب من بعده من يتحاملون على منطق التطور والتكيف والمرونة الفكرية موجهين صفعة لمنطق المراجعات (ضاربين الماء) في وجه أصحابها معتبرين ذلك اضمحلالا للفكرة وتلاشيا للرسالة فذلك لعمري مؤشر إلى أن بعض رموز النخبة يبعث رسالة ترفض التطور وتدفع باتجاه بقاء ما كان على ما كان. متناسين -على قرب- ما يمارسه جلهم من مراجعات في الفكر والسياسة والمواقف.

 

 وهو منطق لو تحدث به فقيه تقليدي أو شاب متهور، لكان ذلك أمرًا متفهما، أما أن يسطر ذلك من عركته الحياة وأرجع البصر كرتين في المكتبات فذلك لعمري أمر مستغرب حقا!

 

في هذه السطور سوف أناقش منطق القوم المبني على رفض التطور والمراجعات القائل عمليا بضرورة الجمود على أشكال وشعارات أيام الانطلاق وما في ذهن العوام عن أشكال التدين.

سوف أناقش كل ذلك نقاشا عموميا في مجمل ما كتب وطرح خلال الأسابيع الأخيرة.

 

من المقولات الذهبية في رأيي ما حدثني به حَمَّ ولد الشيخ سعدبوه رحمه الله راويا عن جده العلامة السني المربي الشيخ التراد رادا عل طائفة من الفقهاء انتقدوا بعض آرائه الفقهية غير التقليدية، قائلا: ما أهمية طول العمر وكثرة الكتب إذا لم يغير الإنسان بعض ما كان عليه؟ ويتكيف مع الدليل ويستنبط من الآراء؟

وتلك في نظري ميزة العقل المتطور.

 

ولقد بنى الإمام مالك رحمه الله مذهبه مراعيا أمورًا ومستنبطات من الحياة والفهم المقاصدي، بعد التدوين الإسلامي الأول حيث أعطى لتراكم التجارب وفقه العمل الجماعي لأهل المدينة حجية راسخة وكذلك العرف الخ.... كما روي عن تلميذه الشافعي رحمه الله تعالى في القديم ما خالفه في المذهب الحديث،

هنالك فضاء غير محدود اسمه الفهم، فيحوز الولد سليمان عليه السلام العلامة كاملة في الفهم على والده النبي المرسل داوود عليه الصلاة والسلام إذ يقول القرآن الكريم - ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما.

لقد عبَّ البعض من مشارب شرقية كانت أم غربية لا صلة لها بقيم الدين بل ترفض الإسلام وتدفعه عن الحياة العامة، وحين مالت به الفطرة إلى التدين استخرج الصورة التي ثار عليها أصلا يحسبها دينا ملزما مع أنها أخلاط من عادات المجتمع وأوضاع أهل البادية خلعت فهومها على الرسالة الاسلامية العظيمة فكانت بحاجة لمهارة تفرق بين كنه الرسالة وعادات الناس التي هي من عندياتهم .

 

 كما اغترف آخرون من أدبيات الحركة الإسلامية حقا وكانوا من حداة الركب المغذ نحو الإصلاح ومن المؤسسين للفكرة المراغمين لعتاة مناهضي التدين، وأثناء معارك التأسيس والرفض والتردد .. والنموذج لم يستقر بعد بشكل نهائي، تنقل كثيرون وشقوا  طريقهم بعيدا عن الوسط اللاحب بالحيوية والتدافع ، ولعل ذهنيتهم بقيت محتفظة بشعارات ونداءات متوترة ، كانت تبحث لنفسها عن التأسيس والميلاد في مجتمع حاربها بنخبته المؤدلجة وبعض دوائره التقليدية .

لكن الذين حافظوا على الجذوة متقدة ونفروا في سبيلها نالهم من فقه الثبات والتجارب ما تحدث عنه صاحب الظلال رحمه عند قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة}، إذ يقول: "إن هذا الدين منهج حركي، لا يفقهه إلا من يتحرك به؛ فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه؛ بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه؛ وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به. أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا، لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا؛ ولا فقهوا فقههم".

 

سادتي.. إن العمل الميداني أثناء النفرة في سبيل الفكرة مع ما يستجد من فهوم وما يُعترضه من عراقيل كل ذلك مدعاة للاجتهاد والبحث والابتكار وفي ثناياه تدافع للرأي وإشراقات فهم تُبرق، يوفق البعض لاقتناصها وتستغْلقُ على آخرين فيستعصي عليهم استيعاب التكتيك الممهد طرق الحياة لمركب المشروع الذي يحمل من كل زوجين أصنافا وأهلك ...

 وسِعَت صدور الصحابة الاختلاف والتباين في الآراء فقد رفض علي رضي الله عنه محو صفة الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقد كان ذلك شرط سهيل بن عمرو للتوقيع فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرينيها فمحاها، لأنه رأى أن إثباتها كتابة في نص الوثيقة قد يعيق الفرصة الأهم يومها وهي القبول بصاحب الرسالة المطارَد المرفوض قبلُ كطرف يعاهَد ويوقع.

 

ومن بين المآخذ ما يقول إن الأسس التي انطلقت بها الحركة الاسلامية تلاشت وتم تذويبها!!

ولعلي أنبه إلى أن من أهم الاسس التي انطلقت الحركة الاسلامية المعاصرة من أجلها هي:

أولًا في مجال الاهداف الكبرى التجديد الديني والبعث الإسلامي.

- ثانيا: السعي في البناء الحضاري ومقاومة الاستعمار والاستغلال ونشر الحرية والبحث للمسلم المضطهد عن كرامة وعيش رغيد.

أما على الأرض فقد أعلن البنا رحمه الله تعالى (أننا نريد الفرد المسلم والبيت المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة التي تجمع شتات المسلمين وتستعيد أرضهم المغصوبة وأوطانهم المسلوبة ... )

 

وأي حكم على هذا الهدف بالفشل أو النجاح يجب أن ينطلق من رصد موضوعي لما تحقق على أرض الواقع من هذه الأهداف والوسائل.

لقد انطلقت الحركة الإسلامية الحديثة ردة فعل على هزيمة عسكرية وحضارية أسقطت الخلافة الإسلامية وسيطرت على بلاد المسلمين وشوهت الدين ونشرت الانهزام الفكري والأخلاقي أمام حضارة منتصرة غازية حيث كان الحجاب عيبا وصلاة المسجد منقصة والدين في غربة يخجل أبناؤه من التحدث عن رسالة الإسلام بعزة والجهاد لا أثر لراياته..

 

وإن الناظر بعدل وإنصاف لما أنتج مفكرو هذه الحركة من فكر إسلامي نير استنطقوا فيه النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ونخلوا فيه التراث الإسلامي بأحداثه ووقائعه مقدمين إجابات إسلامية في كل مجالات الحياة وأساليب العيش فيها ، من حقوق الطفل إلى العلاقات الدولية، فمكانة المرأة ، وتفاصيل الاقتصاد ، ودحض الربا ، وطرح البدائل الإسلامية المقنعة بحيث أضحت المالية الإسلامية اليوم البديل الآمن الذي تفتح له الحضارة الغربية أسواق التعامل وتعترف بصلابة القيم التي بني عليها  فتصبح بريطانيا السوق الأكبر للمالية الإسلامية...

 سيعترف الدارس الموضوعي بنجاح منقطع النظير وبناء ضخم لأسس وأركان قوية من المدونة الإسلامية سياسة وفكرا وأدبًا وقوانين وحركية مجتمعية، وإحياء لقيم التدين الواعي في جميع مفاصل حياة المسلمين اليوم.

 

لقد بنى ذلك الفرد المسلم الواعي بيتا أضحى نموذجا للحي والجيران أثر تأثيرا جليا فبنى مجتمعا إسلامي الاخلاق يهتم بالجيران، يصلح من شأنهم ويتعالى على السفاسف..

وما وُجد من فرص لبناء الدول نجح في الإقلاع بمجتمعات كانت تغط في حضيض التخلف والتبعية فزرع الأرض وبنى الأبراج وصنع الطائرات وأخذ بأسباب التدبير المختلفة، كل ذلك تم في ظروف قهر وعربدة من القوى الدولية التي ترفض لهذه الامة أي قوام أو نهوض على أقدامها، مانعة إياها من خلال حكام الظل المسيطرين على غالبية تلك الدول، من أن تصنع ما تركب أو تزرع ما تأكل أو تنسج ما تلبس بل إن الدور المطلوب من هذه الأمة هو أن تظل سوقا مفتوحة لبضائع الحضارة الغربية الأنانية.

 

لعلي لا أبالغ هنا إن قلت بإن الإنتاج الثري والغزير للحركة الإسلامية وما راكمته في مجال الإصلاح في مختلف المجالات أضحى مدرسة سيظل الكل عالة عليها في الفهم والتفسير الإسلامي لكل ما يطرح من إشكالات الخُلطة في للحياة المعاصرة.

 

وكما حورت مدرسة المرابطين دعوة خصمها اللدود محمد بن تومرت وقومت تلامذته من بعده جاعلة بعضهم يحفظ صحيح البخاري.. فإن الامة الاسلامية اليوم رغم خصومة غالبية حكامها للحركة الاسلامية وكذلك (نخبة الشاشة) إلا أن البحث في المحركات يفرض استفادة الجميع من الفكر الإسلامي لذلك لا سبيل لنهضة أصيلة بدون الاستفادة مما نظر له فلاسفة البعث الاسلامي المعاصرين.

 

أذكر بأن مجموعة من العلمانيين والوطنيين المستريحين في مصر كتبت مرحبة بمراجعات الإخوان في تسعينيات القرن المنصرم التي تمثلت في رؤية أبانت عن مواقف مستنيرة من جملة الإشكالات التي كانوا يطرحون، مثل الموقف من المرأة وحقوق الانسان والديمقراطية والعلاقة بالآخر.

ولست أدري ما الباعث اليوم لبعض الشركاء على الالتحاف بثوب التقليد ورفض التبصر ومنطق المراجعات والتكيف مع المتاح، متنكبين منطق رجال الدولة المرحبين بكل تطور يحصل لفصيل وطني يقتنع بأسس الدولة الحديثة وبالعمل من خلال أقنيتها الطبيعية.

هذه إطلالة لا تتسع لما يستحقه الموضوع من تتبع ونقاش ولعلي أعود له بمزيد بيان في حلقة قادمة بإذن الله.