الدويري يكتب: انتصار طالبان.. عِبَرُ عقدين من الحروب والثورات

ثلاثاء, 08/17/2021 - 12:38

كان العقدان المنصرمان مُفعميْن بالعبر والدروس لكنّ العالم الإسلامي ومصلحيه لا يفرطون في شيء تفريطهم في الاعتبار واستخلاص الدروس الواعية من التجارب المشرقة والمريرة؛ ففي كل حدث مفصلي تُتَناول الوقائع وما يترتب عليها بطرائق توحي كأن الأمر أنف أو أن عالمنا لم يشهد من الأحداث ما يكفي لبلوغ محددات يقينية يقود الانطلاق منها إلى تحقيق الاستئناف المنشود إذا ما سقيت بالعمل الجادّ، وتُعهّدت بالتخطيط المحكم ونبذ الهوى المقيت والتكاسل المفلسف بالتنظير البارد والهوس بتقديم خلاصات جاهزة تُنسخ وتلصق إدانةً لتيارات الإصلاح والتجديد الجادّة في العالم الإسلامي.

 

إن تجارب التغيير ومحاولاته في التاريخ الإسلامي طويلة وثرية منذ تحول الحكم من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، ثم ما تناسل عن ذلك من الأحكام الجبرية والصورية والوظيفية في ما بعد الدولة الحديثة إلى هذه الأسابيع التي شهدت الانقلاب على حزب النهضة في تونس (الحركة الإسلامية الأكثر تسامحا وانفتاحا)، ثم انتصار حركة طالبان الأشد محافظة وصرامة على حكومة كابل بعد هزيمة القوات الأميركية والدولية وهربها من أفغانستان، وعلى تجارب العقدين الأخيرين بين 2001-2021 ستركز هذه الملاحظات مسهمة في تقديم صورة مكتملة تستحضر تحدّيات الواقع وقت نشوة النصر، ولا يعوقها ماضي الهزائم وتسلط الأعداء عن الفرح والبهجة واستشراف غد مشرق في ظلال نصر الله لعباده المؤمنين.

 

عوامل نصر طالبان.. وفي الصمت منجاة!

لقد اهتز وجدان العالم الإسلامي، وابتهجت قلوب المؤمنين والأحرار بمشاهد فتح أبطال حركة طالبان الولايات والمدن الأفغانية ودخولهم المظفر إلى القصر الرئاسي، فقد كان البث المباشر لتوالي فتح المدن الأفغانية على يد طالبان ومظاهر رحمتهم بالناس وتواضعهم يعيد للذاكرة الإسلامية أخبار الفتوح الأولى وحكاياتها في الشام ومصر والعراق والهند والسند، فكم قرأ الناس عند الواقدي والبلاذري وابن عبد الحكم أخبار فئات قليلة هزّت عروشا وأسقطت ممالك وأقامت دولا، وهكذا فعل طلاب المدارس الدينية في كابل كما رآه العالم رأي العين.

 

راكمت حركة طالبان خلال عقود القتال خبرات مكّنتها من النصر، وكانت تلك الخبرات نقاط قوة تميزت بها الحركة، ويرجع كل ذلك إلى أمر جوهري هو الحسم في الوسائل والواقعية في الأهداف، وتفصيل هذا في ما يأتي؛ فالعامل الأول: الحسم في المواجهة الشاملة، فالطلبة من أول يومهم حركة تحرر مسلح تناهض احتلالا سافرا أسقط إمارتها في ظل حرب عالمية مدمرة، ورغم شدة الحرب وشراسة التحالف الدولي لم يضع الطلبة أسلحتهم، وكانت أخبار هجماتهم على قوات الغزو الأميركي تنشر في نشرات شهرية على مواقع الإنترنت، ومن كان يقرأ تلك النشرات في عامي 2002 2003 وما بعدها سيقول إنما شهده العالم أمس كان أمرا مستحيلا لكنه وعد الله عباده بالنصر وقوة عزيمة الشعب الأفغاني وبسالة قبائله.

 

والعامل الثاني: الحسم في رفض مخرجات الحضارة الغربية وقشورها في قضايا الحكم ومصطلحاته السياسية جملة وتفصيلا مع الاستفادة النوعية من التقنيات الحديثة وتوظيفها، فبريق الديمقراطية والتداول السلمي ومواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية أمور لا تعني للطلبة الأفغان شيئا؛ ففي التراث الحنفي من السياسة الشرعية والسلطانية وفي أبواب الإمامة في كتب العقيدة الماتريدية ما يفي تنظيرا وتطبيقا بمتطلبات خريجي المدارس الإسلامية في الحكم، كما أن ثمة عاملا آخر يعزز رفض الطلبة لهذه المخرجات الفارغة المضمون واقعيا في العالمين العربي والإسلامي، وهو أن الإسلاميين المقتنعين بالديمقراطية لم ينالوا منها بعد ما يصح السكوت عنه إذا ما استثنينا التجربة التركية التي يقودها أحناف آخرون تخرجوا في مدارس الأئمة والخطباء، في نسخة من الفقه الحنفي المتطور لعلاقته الوطيدة بمواريث الحكم والسلطنة في مناطق النفوذ العثماني.

 

والعامل الثالث: هو الحاضنة الشعبية القوية التي يأوي إليها الطلبة، فهم ليسوا شذاذ آفاق بل أبناء القبائل الأفغانية سعوا أول أمرهم لبسط الأمن وإنهاء الاقتتال الداخلي، ثم جاهدوا من بعدُ لتحرير بلدهم، وتحمل جلّ الشعب الأفغاني عن الطلبة صورا مشرقة في بسط الأمن وردع اللصوص والمجرمين والتمثل الصادق لقيم الإسلام التي صاغت هذا الشعب منذ أيام الفتح الإسلامي الأولى وإلى اليوم؛ هذه هي الصورة التي يحتفظ بها الأفغان عكس ما يروج له الإعلام الغربي، والإنسان الأفغاني في أرضه ذات الخيرات الوفيرة والمناخ الجميل والتاريخ العريق لا يحتاج إلى أكثر من الأمن في غدوه ورواحه. وتتجلى أهمية عامل الحاضنة الشعبية في أن أغلب العائدين من العقلاء العرب من أفغانستان توصلوا في أدبياتهم ومراجعاتهم إلى أنه لا يمكن لأي جماعة أو حركة أن تواصل جهادها وكفاحها من غير وجود شعب يحتضن ويدعم ويجدد الدماء، ومن تأمّل وجوه المقاتلين الأفغان الجدد يدرك أن القادة الحاليين بدأت الحرب الأميركية وأعمارهم في العشرينيات ومن يحرسهم الآن هم شباب في مقتبل العمر، فسند الجهاد متصل ومتن الكفاح واضح محكم "كلما خلا سيد قام سيد".

 

والعامل الرابع: طبيعة الأرض والإنسان؛ فمن قديم الزمان كان للجغرافيا في كل الحروب الكلمة النهائية، ووعورة أفغانستان وعلو جبالها وتعوّد أهلها ذلك أسباب تجعل هزيمة هذا الشعب من المستحيلات المجربة، فكم تهاوت إمبراطوريات على أبواب أفغانستان، كما أن إلف الأفغان السلاح وحمله وبسالتهم المشهورة وانتشار قيم البطولة بين صالحهم وطالحهم أمور تجعل وصولهم إلى غاياتهم القتالية مسألة وقت لا تحتاج إلى أكثر من تحقق بعض الشروط الوضعية في أدبيات الحروب.

 

والعامل الخامس: حساسية الشعب الأفغاني من الأجنبي عموما حتى لو كان مسلما، وهذه حقيقة تاريخية رصدها فيلسوف الإسلام وموقظ الشرق جمال الدين الأفغاني في رسالته الطريفة "تتمة البيان في تاريخ الأفغان" إذ يقول في الفصل الثالث منها "في ابتداء سلطنتهم وقيام زعيم منهم بأمر الملك: نشأت هذه الأمة على الجلادة والإقدام فكانت أمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي عليها، حتى إنه في زمن محمود الغزنوي وجنكيز خان التتري وتيمور الكوركان، الذين تمَّت لهم السلطة عليها، لم تكن تبعيتها لهم خالية من الخطر، وكذلك في عهد انقسام ممالكها بين سلاطين الهند وفارس؛ إذ كانت تتربص بملوكها الشر دائمًا وتترقب الفرص لإيقاد نار الفتنة، وقد تطاولت أيدي طائفة (الغلجائي) على معسكر محمود الغزنوي ونهبوه، وقد تسلطوا على مدينة قزنة زمنًا، وشكلت طائفة منهم سلطنة في دهلي أيضا" (ص 15).

 

ولعل ذكر هذا العامل الخامس مناسب للانتقال إلى واقعية الأهداف عند الطلبة الأفغان، فالمتتبع لمسار الحركة رغم أنها تطلق على نفسها لقب "الإمارة الإسلامية" يدرك أنها لا تهتم بما وراء حدود أفغانستان، وكانت علاقتها بالمجاهدين العرب قبل الحرب الأميركية علاقة ضيافة واحتضان لم يرعها الضيوف حق رعايتها ولم يصغوا لمجالسهم الإفتائية والاستشارية، فكان حماسهم وتهور قادتهم سببا للحرب التي لم تضع أوزارها بعد، وهذه الواقعية خففت عن الحركة كثيرا من الأعباء التي لا قبل للجماعات بها، فكانت منطلقة في علاقاتها ومفاوضاتها من غير تشويش عليها من طوابير التخوين والتكفير والتفسيق والتبخيس.

 

سيكون أهم عون يقدمه الجهاديون بخاصة العرب للطلبة في عودتهم الجديدة أن يتركوهم وشأنهم ولا يحملوهم فوق ما يطيقون، فقادة الحركة يقدّرون أولياتهم تقديرًا دقيقًا، فبعد اقتناعهم شرعا بجواز المفاوضات المباشرة مع الأميركان لم يترددوا قيد أنملة في ذلك، كما أن قضية فلسطين لا تحظى بأولوية في أدبياتهم وخطابهم الإعلامي فضلا عن سوريا ومسلمي تركستان الشرقية، ففي الشهر الماضي ترددت وفود من الحركة على طهران وموسكو وبكين ولم يكن لهذه القضايا حضور عند الحركة، كما أن محتسبي العالم العربي لم يلاحظوا ذلك ولم ينتقدوه عكس رصدهم لتحركات حركة حماس وكلماتها وأنفاسها إذ لم تكن الحركة الأفغانية وجهودها ضمن اهتماماتهم قبل انتصارها الذي حاولوا أن يجعلوا منه مقياسا مفصليا لنجاح نماذج وسقوط أخرى في خفة فكرية تنمّ عن فراغ قاتل في عالم معقد، وهنا نصل إلى عِبر الثورات في عالمنا العربي من خلال جدلية حمل السلاح والحفاظ على السلمية في مشاريع التغيير.

 

السلاح ليس كل شيء!

نعم، لقد عاد الطلبة أقوى وأكثر تجارب وبصيرة بالواقع الأفغاني المعقد لكن واقع السلم وتدبير شؤون الناس تحديات أخرى تحتاج إلى صبر وبصيرة وبسالة وأمور أخرى ليس السلاح من أهمها، وقادة الطلبة واعون -حسب تصريحاتهم- بالتحديات التي تنتظرهم، وسيتغلبون عليها بقدر نجاتهم من أحابيل التدخل الخارجي، وهنا نشير إلى أن غلبة السلاح كما يحلو للمتحمسين الآن أن يرددوا ليست هي المعيار في الانتصار الحقيقي كما أنها ربما لا توصل إلى المقصود ولا تحقق الغايات.

 

فمسارات الثورات العربية وتجارب الإسلاميين في الحكم والوصول إليه لم تكن على جديلة واحدة؛ ففي النموذج السوري حمل السوريون أرواحهم على أكفهم وتداعى لهم الشباب المتحمس من أقطار الدنيا لكنهم لم يستطيعوا الإحاطة بالنظام المتوحش، وكانت كثرة الفصائل وتشرذمها المجهري مناديين بالحذر والتمهل لكل دعوة غير متبصرة إلى حمل السلاح في ظروف غير مواتية، ولا يعني هذا إدانة السوريين في تصدّيهم البطولي للنظام الطائفي بل المقصود هنا أن السلاح ليس دائما حليف الفلاح، والله نسأل نصر السوريين قريبا.

 

كما نستحضر في تجارب الإسلاميين في الحكم نموذج السودان، فقد استطاع إسلاميوه تنفيذ انقلاب ناجح، وسيطروا سيطرة كاملة على جمهورية مترامية الأطراف خلال 3 عقود، وحاولوا أن يقدموا نموذجا كان التحكم معياره ومناصرة القضايا العادلة ديدنه لكنهم في النهاية أخرجوا من الحكم عقب ثورة شعبية تتهمهم بالفساد، وكانت نجاة بلدهم ونجاتهم هم أنفسهم تتعلق بالديمقراطية والتداول السلمي، فلو أرسوهما وحموهما بقوتهما الضاربة لكان البشير الآن بطلا محمولا على الأكتاف، ولكان وزراء الإنقاذ قادة رأي في بيوتهم آمنين لكن التعسكر غلب على الفكرة وحب التحكم مال بالمبادئ، وربك يفعل ما يشاء ويختار.

 

إجماع على السلمية

في محافل التثبيط وأدبيات خوالف الخوارج القعديين يكثر التندر على مقولة الدكتور محمد بديع مرشد الإخوان المسلمين التي سارت بها الركبان "سلميتنا أقوى من الرصاص"، وهي جملة من جوامع القول صدرت في لحظة مفصلية من تاريخ مصر وجماعة الإخوان المسلمين، ومن استحضر الحيثيات التي قيلت فيها هذه الكلمة وما أعقبها من عض الجماعة على هذا المبدأ بالنواجذ رغم العنف والقتل والتشريد يدرك أن هذا قرار إستراتيجي بصير لدى الجماعة لا رجعة فيه، فالرجل الذي قال هذه الكلمة يزعم خصومه من الإسلاميين وغيرهم أنه يقود آلاف الشباب المضحي الطيع وأنه إذا غضب غضبت له مئات الآلاف، وقد فقد فلذة كبده كما إخوانه ومع ذلك فلا تراجع عندهم عن السلمية لسبب واضح وبسيط أن العنف يكلف البلد والأمة والشعب أكثر وإن شفا غيظا وأبرد حنقا.

 

صحيح أن الجملة قالها المرشد لكنها أضحت محل إجماع لدى إسلاميي مصر الأحرار وهم كثر جدا، فما رأينا أحدا منهم ذا بال مال إلى العنف أو دعا إليه، وأشدهم تمسكا بالسلمية الواعية أولئك الذين جربوا العنف وامتطوا صهوة جهاد ما أسموه العدو القريب، فكانت خلاصة اعتبارهم وتجاربهم أن قاوموا الظلم ونبذوا العنف حتى يأذن الله بنصره، وقل عسى أن يكون قريبا.

 

خلاصة تعامل قوى الاستكبار العالمي وعملائها في المنطقة مع أشواق الشعوب في التحرر هي المنع، سواء في ذلك من اجتهد في تقليل الشر بتحالفه مع بعض الأنظمة السابقة مثل النهضة في تونس، أو سنّ قانون العزل السياسي كما في ليبيا، أو حمل السلاح مثل السوريين، أو احتفظ بالحكم عبر القوة كالسودان، أو اشترك مع بعض أنظمة الثورات المضادة في الأهداف الإستراتيجية مثل إصلاح اليمن؛ فالأنظمة الوظيفية في المنطقة تخاف حرية الشعوب، فليبارك الأحرار للشعب الأفغاني انتصاره على الاحتلال الغاشم، ولتواصل شعوب المنطقة نضالها الواعي في بلدانها، فلن يضيع حق وراءه أحرار أباة وشعوب أبية.