أمين حبلا يكتب: بوركينا فاسو.. أرض "الرجال الصادقين" الغارقة بوحل الأزمات

اثنين, 10/10/2022 - 10:10
جنود يرافقون موكب تراوري في العاصمة واغادوغو

لم يعد تراث رئيس بوركينا فاسو الراحل توماس سانكارا الملقب بجيفارا أفريقيا ملهما للنخب العسكرية في البلاد، فقد بات الملهم الأكثر تأثيرا في السنوات الأخيرة هو أحزمة الرصاص ذهبية اللون، التي تعدّ أسرع طريق إلى حكم بلاد "الرجال الصادقين".

قبل 11 عاما لا أكثر كان النقيب إبراهيم تراوري (34 عاما) مجرد ضابط صغير الرتبة يخطو أيامه الأولى في الجيش البوركينابي، لتحمله عاصفة التحولات السياسية والأمنية في البلاد عبر أفواه البنادق من جديد إلى سدة الرئاسة، لينفذ بذلك انقلابا على الانقلاب الذي قاده النقيب المطاح به بول هنري سانداوغو دامبيا، ضمن سلسة من الانقلابات والعصيانات العسكرية التي تعيشها بوركينا فاسو منذ الإطاحة برئيسها العتيد بليز كومباوري.

يأتي صعود تراروي للسلطة وسط تصاعد الحلم الروسي بنفوذ قوي في المنطقة بعد أن أحكمت قبضتها على جزء معتبر من منافذ السلطة في مالي، وزوّدت جيشها بعتاد، مكّن القادة الشباب من التمسك أكثر بسلطتهم التي انتزعوها من الرئيس الأسبق إبراهيما بوبكر كيتا بالعنف والقوة.

ولم يخف الانقلابيون الجدد الذين تزاحموا أمام الكاميرات، توجههم نحو القبلة الروسية التي أشاروا إليها ضمن العلاقات الدولية التي يسعون لتعزيزها، في حين كانت فرنسا في مرمى نيران مناصري هذا الانقلاب الغريب والمتسارع الأحداث.

وفي كل اقتراب لروسيا من منافذ السلطة في منطقة الساحل، يتقلص جزء من نفوذ فرنسا، ويطوى جانب من بساط سطوتها التي ضربت المنطقة وخصوصا بوركينا فاسو لأكثر من قرن.

أحفاد سانكارا.. عسكريون في مواجهة الأزمات

يتهم رفاق تراوري الرئيس المطاح به بول داميبا بالفشل في إدارة شؤون البلاد واستعادة الأمل في بسط الأمن، ويرون أن داميبا أسهم في زيادة المتاعب وتدمير اقتصاد وأمن بوركينا فاسو، التي فقدت حكومتها المركزية السيطرة على نحو 40% من أراضي البلاد، وما زالت ألسنة اللهب تأكل من 60% الباقية، وبات عداد القتل في ارتفاع مخيف، وأصبحت هجرة القرى وإحراقها، زيادة على الحرب العرقية والتصفيات العنصرية، ملح يوميات الناس في أرض الرجال الطاهرين.

وإذا كان دامبيا المطاح به وتراوري النجم الصاعد يشتركان في الإطاحة بالرئيس الأسبق روك مارك كرستيان كابوري، فإنهما أيضا يشتركان في أن توليهما أدوارا في الحرب على الإرهاب أعادهما بسرعة اللهب للانقضاض على السلطة.

فقد وصل عدد النازحين خلال السنوات الخمس الماضية إلى أكثر من مليوني بوركينابي، في حين وصل عدد القتلى لعشرات الآلاف، ولم تغن إقالة دامبيا وزير دفاعه وتولي المنصب بنفسه من الحرب شيئا، فما زال اللهب يتصاعد حتى أخرجه النقيب من بلاده لاجئا إلى أوغندا ليذوق من كأس التجريد والإهانة ما ذاقه سلفه.

ودون النشوة التي أخذت تراوري وهو يتسلق سدة الرئاسة في الـ34 من عمره، تصطف الأزمات السياسية والأمنية، فالديمقراطية التي ثار من أجلها البوركينابيون وأسقطوا رئيسهم العتيد بليز كومباري باتت حلما بعيد المنال، وأصبح الأمن أقصى غاية الطموح وأصعب ما تسعى إليه الحكومات المتعاقبة.

فولتا العليا.. فسيفساء عرقية ودينية

تصنف بوركينا فاسو ضمن الدول الحبيسة، وفي حين تكاد تجرفها سيول الدماء والأزمات، فإن بلاد توماس سانكارا لا تجد منفذا على أي بحر ولا نهر، حيث يلتقي عليها خناق حدودي صحراوي، بين ساحل العاج ومالي والنيجر وبنين وتوغو وغانا، وتمثل حدودها مع مالي والنيجر ما يعرف بـ"مثلث الموت" الملتهب، الذي تتمركز فيه الجماعات الإسلامية المقاتلة، وتغيب فيه إلى حد كبير سلطة الدولة وأخبارها.

تستند بوركينا فاسو أو "فولتا العليا"، كما كانت تعرف سابقا، إلى إرث تاريخي عريق، فقد كانت في القرن الـ11 جزءا من ممالك مستقلة عُرفت باسم "ممالك موسي"، أو إمبراطورية موسي التي هيمنت على منطقة نهر فولتا العلوي لمئات السنين.

وقد تكونت تلك الممالك الإسلامية بعد تشظي وتفتت مملكة مالي، واستمرت حتى قدوم المستعمر الفرنسي إلى المنطقة، حيث وقّع الاستعمار الفرنسي معاهدة في عام 1896 مع ممالك موسي ضمت بموجبها الأخيرة لمستعمرة السنغال العليا.

وفي العام 1960 نالت "فولتا العليا" استقلالها عن المستعمر الفرنسي، حيث رحل عنها بجنوده ولكنه بقي بنفوذه وحضوره.

يتوزع سكان بوركينا فاسو البالغ عددهم 21.5 مليون نسمة (أرقام البنك الدولي لعام 2021) على نحو 60 مجموعة عرقية، يشكل الموسي الأغلبية بينها، إذ يمثلون حوالي 40% من مجموع عدد السكان، أما النسبة الباقية (60%) فتضم مجموعات أخرى متعددة (فولاني، غورونسي، بوبو، سينوفو، ماندي.. إلخ).

ويمثل الفلان المجموعة العرقية الثانية في البلاد من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عددهم عدة ملايين، ويتركز وجودهم في الأرياف وفي المناطق الوسطى والشمالية من البلاد.

ومنذ العام 2015، تتعرض هذه العرقية المسلمة لموجات من التقتيل والتعنيف على يد جماعة من قبيلة الموسي غير المسلمة، رغم التعايش الذي ظل سائدا بينهما منذ الأزل على أديم أرض الرجال الصادقين.

وقبل أسابيع انتشر مقطع صوتي باللغة الفرنسية يتضمن تحريضا على الفلان، وتضمن عبارة "يجب أن يقتلوا، يجب أن يبادوا"، وتأتي حملة التطهير التي تستهدفهم بسبب انتماء بعض أعضاء ونشطاء الجماعات المسلحة المقاتلة لعرقية الفلان.

وكما تشكل الخريطة السكانية في بوركينا فاسو فسيفساء متنوعة من المجموعات العرقية، يتوزع هذا الخليط البشري على ديانات شتى، أبرزها الإسلام الذي يدين به أكثر من 60% من السكان. أما 40% الباقية، فـ19% منهم كاثوليك، و15.3% وثنيون، و4.2% بروتستانت، و0.6% آخرون، و0.4% لا دين لهم.

ومع انتشار موجات العنف العرقي وتدهور الأوضاع الأمنية، فقد تراجع المنتوج الزراعي للبلاد بعد أن كان أبرز مشغل للامتصاص البطالة، حيث تراجعت نسبته في اليد العاملة البوركينابية من 80% إلى 26% فقط عام 2022، كما تراجعت أيضا السياحة بشكل لافت جدا بعد أن ارتفع لهب "الإرهاب" والصراعات السياسية والاجتماعية إلى نوافذ وباحات الفنادق والمنتجعات.

ورغم ما تزخر به البلاد من ثورات طبيعية، فلن يتمكن ذووها -على الأرجح- من استخراج ما في باطنها من مناجم وثروات معدنية هائلة يمثل الذهب جزءا أساسيا منها، قبل أن يملؤوا أرضهم سلما وعدلا، وفي انتظار ذلك يتوقع أن تواصل بوركينا فاسو تذيل المؤشرات الدولية في التنمية، إذ احتلت في 2021 الرتبة رقم 191 في أفقر دول العالم.

سبحة الانقلابات العسكرية

بعد أن نالت البلاد استقلالها عن فرنسا في العام 1960، تولى الحكم رئيسها الأول موريس ياميوغو، لتتعاقب بعد ذلك سلسلة من الانقلابات طيلة 60 سنة الماضية، وذلك وفق التراتبية التالية:

– في الرابع من يناير/كانون الثاني 1966 أطاح الجنرال أبو بكر سانغولي لاميزانا بالرئيس ياميوغو إثر موجة من الشغب والاضطرابات الأمنية جراء أزمة اقتصادية ضربت البلاد.

– أعاد لاميزانا "تمدين" نفسه وانتخب بعد ذلك بسنوات، وتحديدا في العام 1978 "رئيسا ديمقراطيا" للبلاد.

– بعد سنوات من الجفاف وتدهور الأوضاع الاقتصادية، قاد العقيد سايي زيربو يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1980 انقلابا على الجنرال لاميزانا.

– وبعد سنتين من انقلاب العقيد سايي، قاد العقيد الثائر والعسكري الأبرز في تاريخ البلاد توماس سانكارا انقلابا آخر في الرابع من أغسطس/آب 1983، وذلك بعد انقسام وصراع داخل اللجنة العسكرية للتعديل من أجل التقدم الوطني، حيث تولى الرئاسة بشكل مباشر الطبيب جان بابتست أويدراوغو، وسرعان ما لحق هو الآخر بمن سبقه من الرؤساء المطاح بهم ليتولى الزعيم سانكارا الحكم.

أسس سانكارا على الفور المجلس الوطني الثوري، مطلقا طموح الشعب البوركينابي من أغلاله، ومعتمدا خطابا سياسيا مناهضا للإمبريالية، ولكن سرعان ما نال هو الآخر بعد 4 سنوات وتحديدا في الخميس الأسود 15 أكتوبر/تشرين أول 1987 المصير ذاته، حينما اندلعت مواجهات مسلحة داخل القصر، ليسقط خلالها سانكارا مضرجا بدمائه، ويبدأ مستشاره السياسي بليز كامباوري رحلة حكم استمرت 27 عاما، وبينما كانت النياشين تتدفق على كامباوري وهي تعلن استيلاءه على الحكم، كان طبيب مأجور يعلن أن وفاة سانكارا كانت طبيعية.. بل وطبيعية جدا.

بعد 27 ربيعا، دار الزمن دورة أخرى، وخرج البوركينابيون في ثورة عارمة ابتداء من الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 2014، لمواجهة سعي كامبوري للحصول على مأمورية ثالثة، لينهار حكمه يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول من السنة نفسها، حيث أعلن استقالته وفرّ إلى خارج البلاد.

وفي 18 نوفمبر/تشرين الثاني من السنة ذاتها أدى ميشيل كافاندو اليمين الدستورية رئيسا انتقاليا للبلاد، ليجد نفسه بعد ذلك بفترة -وتحديدا في 16 سبتمبر/أيلول 2015- محتجزا رفقة رئيس حكومته الجنرال إسحاق زيدا، تحت رحمة جنود الحرس الرئاسي، ليتولى الجنرال غيلبرت دينديري القائد السابق لمخابرات كامباوري رئاسة البلاد.

وأمام ضغط المجتمع الدولي، عاد الرئيس الانتقالي ميشيل كافاندو إلى منصبه يوم 23 سبتمبر/أيلول 2015، حيث أشرف على الانتخابات التي فاز فيها رئيس حزب المؤتمر من أجل الديمقراطية والتقدم روش مارك كريستيان كابوري، ليعاد انتخابه في 2020، ثم الإطاحة به يوم 24 يناير/كانون الثاني 2022 على يد العقيد بول هنري سانداغوي دامبيا الذي شرب من الكأس نفسها قبل أيام على يد الضابط إبراهيم تراوري.

بين "الإرهاب" وصراع الإرادات الدولية

تعيش بوركينا فاسو تحت صراع إرادات متعددة، فهي وإن كانت ظلا تاريخيا لفرنسا، فقد أصبحت اليوم طموحا لدى روسيا، التي ترى في السيطرة على منطقة الساحل قوة إستيراتجية تمكنها من السيطرة على مصادر أساسية للطاقة والذهب، إضافة إلى إقامة سور دفاع لمصالحها في أفريقيا والشرق الأوسط.

أما فرنسا فلا تزال تقاوم -وإن بضعف- ما تعتبره تاريخيا جزءا من مائدة سيطرتها وموارد اقتصادها وعنوان هيبتها الأفريقية.

وفي الطرف الآخر، تدفقت أعداد كبيرة من مقاتلي الجماعات الإسلامية المسلحة إلى الأراضي البوركينابية، لتجعل منها منصة لحروبها وهجماتها على الجيش والمواطنين البوركينابيين، حيث ينشط بشكل خاص مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية فيما يعرف بولاية أفريقيا، إضافة إلى جماعة النصرة، ومقاتلي جبهة تحرير ماسينا ذات الغالبية الفولانية.

ومع امتداد ألسنة اللهب، تحول الفولان إلى هدف دائم للقوات الرسمية والجيش الفرنسي، لتدخل البلاد في تصفية وصراع عرقي يأكل لهيبه ما تبقى من قوة الدولة وتماسك الأمة البوركينابية.

وفي وقت يبدأ فيه النظام العسكري الجديد يوميات التدبير السياسي، سيجد نفسه أمام مطبات وتحديات متعددة، أبرزها:

– توطيد الأركان المهتزة في ظل انقسام في الجيش الضعيف والمنهار والمتعدد الرؤوس والذي يعيش موجة من غياب المرجعيات المؤثرة، وطموح الشباب إلى سدة الحكم.

– حماية الظهر من رد فرنسا التي يراها كثيرون هناك "أسدا جريحا" لا تؤمن بوائقه.

– مواجهة الجماعات المتطرفة التي تزيد مساحة انتشارها وتأثيرها وامتداد لهبها.

– تدبير الملف الاقتصادي في بلد تنهار قدراته الأساسية بشكل متسارع، ويفقد وزنه الاقتصادي يوما بعد يوم، ليدخل في حالة هزال تنموي مخيف.

– التعاطي مع سقف الطموح الروسي في المنطقة، فموسكو لا تفهم أسلوب المناورة أو "الجمع بين الأختين" في إدارة علاقتها مع دول مناطق النفوذ الفرنسي العتيق.

وليس من الواضح ما إذا كانت النسخة الجديدة من انقلابيي بوركينا فاسو قادرة على رفع هذه التحديات، أم أن الأزمات التي تجتاح القارة ومنطقة الساحل ستجعل منهم ورقة صفراء في مهب الرياح، التي عصفت بمن قبلهم من حملة النياشين.