صحفات من الحياة.. فاطمة المصاصة لقاء على ضفة شاطئ الرعب

خميس, 10/19/2017 - 13:58

رغم  السنوات الأربعين التي رسمت خطوطا عريضة في وجهي وعلى يدي المتغضتنين، ورغم ما تقاذفني من أمواج فكرية انتقلت منها بين يسار ويمين، إلا أن شيئا ما جذبني إلى عالم الميثيلوجيا هذا اليوم وأنا ألتقي عناصر بشرية ارتسمت في مخيلتي ولا تزال عصية على الابتعاد من حيز الذاكرة، لا تزال تشغل في اللاوعي حيزا من الفراغ حول "السل والسلالة ..أو المص وغيره من عوالم السحر المروعة"

 

هذا الصباح التقيت ابنة الحجاب المشهور في حينا منتصف الثمانينيات السيد صمب ولد اميسات، كان رجلا ضخما قويا طويلا، يلبس دراعات كبيرة مزركشة ويزين صدره بكثير من التمائم والحقائب الجلدية الصغيرة، ويعتمد على عصا، لا شك أنها تنوء بثقله ولو نطقت لقالت : أوووكوك مثقلو"، كان يقضي شهرا في الحي ثم يغادر بقية الأشهر إلى نسائه الثلاث الأخر الموزعات على مناطق متفرقة من موريتانيا والسنغال كما علمت بعد ذلك

التقيت السيدة  فاطمة كانت نسخة من والدها في الضخامة واحمرار الحدقتين، سلمت علي بكل بشاشة وترحاب، فالمجال الزمني الفاصل بين آخر لقائين بيننا كان بضعا وعشرين سنة، أما المجال النفسي فلم تزده بشاشة فاطمة إلا جفوة واتساعا، سلمت عليها مرتبكا، فقد استيقظت كل هواجسي الميثولوجية وكل الأساطيرالمتعلقة بالمص بل أكثر من ذلك وجدتني بعد قليل أستحضر بالتفاصيل كل القصص المروعة  التي نسبت إلى والدها وجدتها وأخوالها

كان هذا العنصر الأول، وبعد أن قطعت مسافة كبيرة، وفي أحد ممرات سوق العاصمة التقيت الشاب سليمان ولد أحمد وهو نجل الضابط الشاب الوسيم أحمد ولد محفوظ الذي توفي قبل حوالي 27 سنة، وقيل يومها إن الحجاب صمب ولد ميسات توعده بانتقام مروع لأنه صفع ابنته فاطمة ..فاطمة التي التقيته هذا الصباح.. لأنها أيضا صفعت الطفل أحمد الذي أصبح شابا طويلا وسيما مثل والده ..ولا تزال يدي في يده متصافحين نتبادل التحيات الطيبات، والذكريات تقفز إلى ذهني كأسراب متنافرة من العقبان والعصافير.

على شاطئ الذكرى

أستل من ملفات الذاكرة ومن حقائب الأيام تفاصيل تلك المشاهد، لا زلت أذكر يوم أمرتني المرحومة والدتي بأن أنقل إلى جارتني بعض الأغراض القليلة إلى جارتها السيدة العجوز أم الخير، في الطريق فوجئت بذلك الإنسان البالغ البياض بشرة وثيابا، فزعت إلى أقصى درجة ورميت الأغراض في الطريق وعدت مسرعا.

وقبل الوصول إلى المنزل استعدت شيئا من الوعي، واجترمت يومها أولى كذبة أتذكرها، قلت للوالدة إنني أوصلت الأغراض، لكن لم يخف عليها حالة الفزع التي تتراقص على وجهي الصغير.

لقد تصور لي ذلك الإنسان في حقيقتين مروعتين  أولهما أنه " مصراني" وكنت يومها أكره النصارى لأقصى درجة وأخاف منهم، قبل أن أعرف بعد ذلك بسنين أن من بينهم أشخاصا محترمين وأن للنصارى فضلا على بلادنا فلولاهم لما نالت الاستقلال بعد الاحتلال، والثانية أنه طبيب وتلك أكبر من أختها وأكثر إفزاعا.

لقد كان ذلك الإنسان الأبيض ابن السيدة أم الخير العائد يومها من الإمارات العربية المتحدة بمال وفير.

اكتشفت الوالدة بعد ذلك كذبتي ونلت جزاء الكذبة بما يتناسب مع حالة الفزع وحنان الأم الرؤوم، لكن لم يكن هذا الأكثر إثارة في تعاطي ذاكرتي الصغيرة مع أبناء السيدة أم الخير، فلا تزال أيضا صورة ابنها  أحمد ولد محفوظ  ماثلة في ذهني، ذلك الشاب السامق الطويل الوسيم ذو العنق الساطع والترقوة البارزة، والبسمة البارزة، ظهر في حينا أول مرة إنسانا غريبا الشكل والسمات، فهو طويل عكس أغلب رجال الحي الذين كانوا متوسطي القمامة إلى قصار،  كان نظيف الثياب عكس أغلب سكان الحي، الذين يعتصمون داخل ثياب مغبرة، بعيد العهد بالغسل، وهو يلبس بين الحين والآخر بذلة عسكرية وبقبعة جميلة، وفي بعض الأحيان يتجول داخل باحة منزل وهو يلبس سروالا قصيرا من نوع "الكيلوت" أما أغلب رجال الحي فيلبسون سروايل قصيرة يسمونها سروال لكشاط لكنهم يكرهون الكيلوط كما يسمونه ويرونه من العار.

 

يوم الأسى

المهم في تشابك المشهدين أن أحمد ولد محفوظ توفي ..مات في حادث سير مروع رفقة ابن عمه وعديله على أخت زوجته في حادث مروع لم يكونا قتلييه فحسب بل سقى الموت أسرا عديدة من القطر الموريتاني حينما فقدت فلذات أكبادها في انقلاب شاحنة للجيش.

قال الناس يومها الكثير من عبارات الترحم، ورأينا الوفود تترى إلى أسرة الفقيد وبرزت أخواته وقد تحلت خدودهن بسياط الدمع واستعاذت أمه أم الخير بسبحة طويلة، تهز رأسها للمعزين وتقول : الا تمو رحمو اعليه، قبل أن يغلبها الدمع السخين

 

داخل الحي قالت نسوة متعددات ..لقد قالها له الحجاب، وقالت بنيه بنت اسويلم لقد سمعته بأذني هذه يقول له بشكل واضح : ذاك ادور اتشوفو ولل ما نعود أنا ما تليت صمب ولد اميسات"

كان أحمد ولد محفوظ قد صفع فاطمة بنت صمب لأنها صفعت ابنه  سليمان كما قلت، عادت دامعة إلى أبيه الذي قطع المسافة بين منزله ومنزل محفوظ في ثوان حيت رأيناه جميعا مسرعا، وأثار موجة من الغضب والشجار، وعاد وهو يرعد ويتوعد، تقول بنينه منت اسويلم.

تردد جارتها : يامولانا العافية ..أرانا عمرنا كلنا.

في المساء وجدت أمي تضاعف ما كانت تردده علينا من الأذكار والتعاويذ لقد قرأت يومها كثيرا من الأهازيج والأدعية، وطلبت منا أن لا نلعب مع أبناء صمب ولد اميسات ولا مع أقاربهم، وفي حالة لعبنا إن لا نتسبب معهم في شجار

في المساء سمعتها تقول للوالد سأرسل إلى أهل صمب ولد اميسات بعض الطعام، فيرد عليها : لماذا الست خائفة منهم فتقول : نعم أريد أن آمن شرهم.. يقول الوالد : اتق شر من أحسنت إليه

 

دار الزمان، ومرت سنوات ومات صمب ولد اميسات في السنغال فلم يبك عليه الكثير من أهل الحي، لكن أفراد أسرتي جاءوا إلى زوجته وأبنائه يعزونهم، وعادوا وهم يستعيذون بالله من شرهم

 

بعد أشهر قليلة زفت زوجته نفسها إلى بناء قدم فجأة إلى الحي وأقام عددا من بيوت الزنك المائلة، سكن معها فيما ترك لها المرحوم صمب من سقط المتاع ورديئ المنزل، وبعد حوالي سنة أنجبت ابنتها الصغيرة التي جمعت نحافة أمها ودمامة أبيها فجاءت خائرة القوى ضعيفة، تعلق تميمة جلدية في رقبتها وعلى حقويها قلادة من خرز يقولون إنها تحمي من العين والسل والمص وسائر حالات الجن.

لكن شيئا لم يكن متوقعا ذلك الصباح المقيت، حينما انتشر في الحي أن الطفلة الصغيرة قد ماتت وما المانع من ذلك طفلة صغيرة تعاني سوء التغذية في منتصف عهد الجفاف وسوء الأحوال، شيعها عدد قليل من أفراد الحي ونقلت إلى مقبرة الأطفال بعيدا عن الحي.

وفي مساء تلك الليلة اشتعل الخصام بين والدة المتوفاة وأخواتها، وسمعناها تقول لهم : لقد أكلتموها ..مصصتموها..اذهبوا إلى عظامها فافعلوا بها ما شئتم.

وسيطر الفزع على مفاصلي يومها لأقصى درجة واستسلمت لنوم متقطع كنت أقفز منه فزعا لأجد الوالدة تقرأ علي بعض التعاويذ

وأسفر الصبح عن تخفيف حالة الفزع،

لكن لسنوات طويلة كنت ورفاقي مصرين على أن أي قطة أو  كلب أسود  يتجول بعد المغرب أو أي طائر يطير بجناحيه بعد المغرب ماهو إلا فرد من أفراد أسرة صمب ولد اميسات وأقاربه.

مرت على ذلك سنوات عديدة، وأصبحت فاطمة أما لعدة أبناء ولا يزال الناس ينظرون إليهم نفس النظرة ويقولون عنهم إنهم مصاصة، رغم أن دائرة الخوف منهم لم تعد بذلك الاتساع فقد قضت حبات البارستامول المزور على كثير من الصداع الذي كان ينتاب الأطفال والمراهقين وأهل الحي بسبب العمل واللعب تحت أشعة الشمس، وكان كل ذلك الصداع ينسب إلى "المصاصة فاطمة وأبيها وأسرتها"

لقد كانت صداعا للحي

عدت متأخرا للبيت، اتصلت بصديق قديم من أبناء الحي ودعوته إلى البيت استمر الحديث بيننا هاتفيا عدة دقائق، أخبرته بأنني لقيت فاطمة المصاصة، وأحمد ابن المرحوم أحمد ولد محفوظ قبل أن أعتذر عن المواصلة لأنني أشعر بصداع ..رد علي بسرعة : الا مصتك فاطمة