خاص/ريم آفريك
كان ذلك قبل أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما لا حظ الناس في نواكشوط وجود أشخاص ملتحين في المساجد يقف أحدهم ليشعر في أدب بوجود كلمة وعظية بعد الصلاة تختم في الغالب بالدعوة إلى الخروج في سبيل الله لثلاثة أيام أو أكثر ..ثم فوجئوا أن من بين هؤلاء من يحمل ملامح شرق أوسطية وقد يكونون من أعمار مختلفة وفئات متباينة..
لم يكن مفهوم الخروج ساعتها واضحا في أذهان الكثيرين بين من ربطه بالجهاد في سبيل الله أوالمرابطة في المسجد لذا لم تكن الاستجابة لهذا المد الدعوي الجديد على قدر التوقعات، وإن استقر في أذهان الكثيرين أنهم أمام جماعة منظمة وذات أهداف واضحة في تربية الأنفس وتهذيب السلوك ..
ومما يروى أن الامام بداه ولد البوصيري رحمه الله احتضن الوافدين الأوائل ونهى عن التعدي عليهم من فوق منبر الجمعة، بل شكل من بين تلامذته المقربين من يخرج معهم ويشيعهم حتى خروجهم من نواكشوط.
سرعان ما زادت أعداد المنضوين إلى الدعوة الجديدة ليحتكر منسوبوها وحدهم أسم "الدعاة " والذي أصبح علما على أفراد الجماعة بسمتهم وهيئتهم المعروفة وتمكنت بفعل تركيزها على القطاعات العريضة غير المتعلمة من رفع أرصدتها في الشارع الموريتاني وربما ساهم في ذلك :
-خطابها التزكوي المبسط والذي يلامس شغاف القلوب المؤمنة ويدعوها إلى الاستقامة وإخلاص العمل لله والانخراط في طريق الدعوة إلى الاسلام.
-القوافل الأولى من الوافدين من هذه الجماعة والذين كانوا يمثلون خليطا من جنسيات عربية وإفريقية مما يعكس الطابع العالمي للجماعة.
-إن فكرة الخروج وبقدر ما رأى فيها البعض مثار انتقاد باعتبار جدتها على المجتمع الموريتاني إلا أنها وفرت بئات محفزة للتربية والتكوين على منهج الجماعة وفرصة لتركيز خطابها لدى الاتباع الجدد.
وقد ساهمت فكرة الخروج في تغلغل الجماعة في الداخل الموريتاني.
- إنشاء مركز الدعاة أو مسجد التوبة بالرياض والذي أصبح محجة لكل أتباع الجماعة ومدرسة للتربية والجندية منه تنطلق "تشكيلات " الدعاة وإليه تؤوب ، وفيه تعقد الدروس العامة و"البيان " الأسبوعي ليلة الجمعة والذي هو بمثابة مؤتمر أسبوعي لكل أنصار الجماعة وأشياعها في نواكشوط .
- ترتيب منابر دعوية في الأحياء الشعبية بنواكشوط خاصة بالنساء تلقى فيها دروس في الحديث الشريق وأحكام العبادات وذلك في إطار التوجه إلى قطاع النساء أو"المستورات "حسب أدبيات الجماعة.
- كما كان المسجد المعروف ب"الشرفاء " محطة هامة في تاريخ الجماعة و قبل بناء مسجد التوبة وكان لإمام محظرة العون الشيخ محمد الامين ولد الحسن دور لا ينكر كذلك في احتضان الوافدين الأوائل من الجماعة ومساندتهم في مهامهم الدعوية.
وبالتالي يمكن الحديث عن ثلاث مراحل مرت بها الجماعة في موريتانيا:
1-مرحلة التأسيس والنشأة:
وتشمل هذه المرحلة عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عندما كانت الجماعة غير معروفة وينظر إليها بالكثير من الريبة بين من يرميها بالابتداع بدعوتها للخروج الذي كان أمرا جديدا ومن يراها جماعة صوفية محضة تربي أتباعها على مبادئها الستة من :
1-كلمة الإخلاص والتي هي نقيض الشرك والبدع
2-الصلاة ذات الخشوع والخضوع وهي نقيض الغفلة والانقطاع عن الله
3-العلم مع الذكر وهو ضد الجهل والكبر
4-اكرام المسلمين ومحبتهم في الله، وما يقتضيه من الابتعاد عن إهانة المسلم والتعدي على حقوقه .
5-إخلاص النية وتصحيحها، والذي هو مناف للرياء والسمعة والعمل لغير الله
6-الدعوةإلى الله والخروج في سبيله وهو ضد خذلان المسلمين وتركهم بذل الجهد لنشر دينهم والحفاظ عليه من الضعف.
وقد اعتمدت الجماعة طريق الخروج في بعض مساجد نواكشوط المعروفة ومدن الداخل فضلا عن القوافل الدعوية لنشر فكرتها والتعريف بها وقد استطاع بعض من اتصلوا بالجماعة في هذه الفترة أن يسافروا إلى الهند وباكستان فيلتقوا بمرشدي الجماعة الروحيين هناك ليتبوءوا فيما بعد مراكز قيادية في الجماعة.
وقد واجه التبليغيون انتقادات لاذعة من أطياف الصف الإسلامي، ومن المجتمع العلمي العام الذي رأى في فكرة الخروج عملا من أعمال البدع، لكنهم وجدوا دفاعا مهما من بعض العلماء ومناصرة مثل الشيخ محنض باب ولد امين الذين طالما رد على خصومهم بأبيات الحطيئة الذائعة
هم النفر البيض الذين وجوههم تروق وتستشفى بها الأعين الرمد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
كما دافع عنهم الشيخ العلامة محمد الحسن ولد أحمدو الخديم في منظومة طويلة خاصة رأى أنهم يستحقون على الناس كف الأذى والإعانة على الخير، وفي ذات الاتجاه ظل الشيخ بداه ولد البوصيري رحمه الله يولي التبليغين، عناية خاصة بل ومشاركة في بعض المناشط الدعوية، كما نالوا ذات الرعاية من الإمام الشيخ محمد الأمين ولد الحسن الذي خصص لهم ولسنوات طويلة جزء من العمارات التابعة لمحظرته في نواكشوط، قبل أن يقرروا الانتقال إلى مركزهم الخاص في مقاطعة الرياض.
لكن الجماعة أيضا نجحت في استقطاب شخصيات علمية مهمة مثل القاضي والمقرئ الكبير المرحوم محمد ولد محمذن فال، وكذا القاضي الشيخ عبد العزيز سي رحمه الله، والإمام المرحوم عبد الرحمن ولد محنض أحمد، إضافة إلى الطبيب الفقيه بدي ولد أحمذيه وآخرين كثر، ورغم أن الجماعة تجتنب النقاش الفكري أو الرد على منتقديه بشكل عام، فقد ترك إمامها السابق المرحوم عبد الرحمن ول محنض أحمد رسالة معمقة في الدفاع عن "فكرة الخروج" وتأصليها الشرعي.
2- مرحلة الانتشار والتمدد الافقي
في هذه المرحلة كان بناء مسجد التوبة بالرياض وحضورها كجماعة دعوية تحمل هم نشر الدين وتذكير المسلمين بتحمل هذه المسؤولية وهو الفهم الذي استقر لدى الكثيرين حول الجماعة.
وفي هذه المرحلة استطاعت الجماعة أن توجد لها صدى في نفوس الكثيرين من مدرسي التعليم الأساسي والثانوي مما مكنها من التغلغل في الداخل بحكم عمل الكثيرين من هؤلاء خارج نواكشوط ،لكن ذلك لا يعني انقطاعهم عن العمل "المقامي " بمركز الجماعة في نواكشوط.
ورغم نهج الجماعة وخطها المجافي للخوض في السياسة باعتبارها من "أمراض الأمة " إلا أن ذلك لم يعصمها من التعرض للمضايقات من لدن نظام ولد الطايع حيث سجن بعضا من قادتها وتم إغلاق مركزها (مسجد التوبة في نواكشوط ) وحمل آخر خطاب لولد الطائع ب"ا كجوجت" والذي جاء في أوج حملة نظامه على الاسلاميين بمختلف أطيافهم –تحاملا وقدحا في حق هذه الجماعة مما يرى البعض أنه شوه صورته أكثر لدى الرأي العام الموريتاني الذي لم يستسغ هذا الكلام في حق جماعة عرفت بالمسالمة والابتعاد عن العمل السياسي، وهو ما عرى دعاويه من جهة أخرى ضد الجماعات الاسلامية الأخرى الموصوفة بالاعتدال والوسطية والابتعاد عن العنف.
ومع ذلك فقد جاءت هذه الحملة بنتائج عكسية على النظام فقد ساهمت أكثر في التعريف بالجماعة وهيئت لالتحاق الكثيرين من الشباب بها خاصة بعد سقوط نظام ولد الطائع.
ولعل التوسيعات وأعمال الإنشاء والترميم التي شهدها مركز الجماعة في نواكشوط خير شاهد على التوسع الأ فقي الذي شهدته في هذه المرحلة التي امتدت حتى 2008.
3-مرحلة البناء والتنظيم الواعي:
وفي هذه المرحلة بدأت الجماعة تشعر بحاجتها إلى عمل مؤسسي ومنظم في موريتانيا كما لوحظ فيها مستوى من تغير الخطاب العام الذي أصبح أكثر جنوحا للخوض في الشأن العام.
ويدخل في هذه المرحلة إنشاء منابر دعوية ثابتة ومؤتمرات في موريتانيا وطرق بعض مجالات التقارب مع السلطات لم تكن معهودة للجماعة حتى وقت قريب أو بتعبير أدق محاولة إظهار "الخصوصية الموريتانية في التعاطي مع مبادئ الجماعة ونهجها ومن ذلك التقاء قيادات من الجماعة الرئيس الموريتاني بعد المجزرة التي قام بها الجيش المالي ضد مجموعة من التبلغيين كانوا في طريقهم إلى بامكو ديسمبر2011 وعبرت الجماعة في بيان وزعته لأول مرة عن استعداداها للتعاون مع الحكومة الموريتانية.
وأضاف البيان : "نحن نريد الخير للجميع ونتعاون مع مختلف أفراد الأمة سواء كانوا ملوكا أو رؤساء أو أغنياء أو فقراء".
فيما صرح قياديون بها بعد لقاء الرئيس الموريتاني بهم "إن الهدف من اللقاء هو رغبة جماعة الدعوة والتبليغ في "نشر ثقافة السلم بين مختلف مكونات المجتمع وتعزيز السلام في العالم".
مؤكدين أن اللقاء الذي جمعهم بالرئيس الموريتاني كان يدور حول تكوين إنسان معتدل فكريا بعيد من الانحراف أو التشدد الديني".
ذلك "أن إصلاح المسلم الحقيقي المتسامح والمسالم هو هدف الجماعة الرئيسي لأنه بإصلاح الإنسان تصلح الأمة الإسلامية وتبتعد عن الغلو والتطرف".
مع كل إشراقة يوم تغادر مسجد التوبة جماعة خارجة في سبيل الله وفق الرؤية التي يقوم عليها العمل التبليغي أو يستقبل جماعة أخرى قادمة بعد رحلة خروج تراوحت بين ثلاثة أيام إلى ثلاثة أشهر، وبين ذلك يبقى التبليغيون علامة فارقة في العمل الإسلامي الهادئ الذين يقوم على التزكية
الدكتور محمدن ولد اجدود