الشيخ عبد الرحمن ولد موسى: الفقه واللغة العربية يمنحان قيمة اجتماعية كبيرة في إفريقيا

أحد, 09/13/2020 - 10:29

يمثل الدكتور عبد الرحمن ولد موسى ولد الشيخ سيديا أحد أبرز سفراء المحظرة الموريتانية في المشرق الإسلامي وذلك بعد سفارة أخرى لا يزال يؤديها في غرب إفريقيا عبر مؤسسات تعليمية وأنشطة خيرية ودعوية، ليست إلا امتدادا للأدوار الدعوية والتعليمية التي أدتها حضرة الشيخ سيديا الكبير في مناطق متعددة من الغرب الإفريقي وخصوصا السنغال وغامبيا.

يتحدث الدكتور في مقابلة خص بها موقع ريم آفريك عن المحظرة الموريتانية وضرورات التطوير والتحديث، خصوصا على مستوى الوسائل وطرق التدريس والمنهجيات التربوية،  كما يتحدث عن ظاهرة الاستعراب في غرب إفريقيا وعن التراث العلمي لأسرة الشيخ سيديا

 

ريم آفريك: تمثل المحظرة أهم معلم حضاري لموريتانيا، وأهم حافظ لثقافتها وهويتها الإسلامية والعربية، فكيف ترون واقع المحظرة اليوم، وما رأيكم في الدعوات المتواصلة إلى تطويرها؟

الدكتور عبد الرحمن ولد موسى" أعتقد أنه من فضول الكلام القول إنّ المحظرة هي المعلمة الحضارية الأبرز في تاريخ وثقافة موريتانيا؛ إذ لم تُعرف هذه البلاد ولم تعرّف في المشرق ولا في المغرب بشيء قدر ما عرفت وعرِّفت بمحاظرها العلمية، التي خرّجت العلماء المتبحرين في علوم الشريعة والعربية المتمكنين من أمهات متونهما حفظاً واستحضارا واستظهارا وحُسن فهم واستنباط..
وقصدها طلبة العلم من مختلف البلاد العربية والافريقية وحتى من بلاد الغرب، فنهلوا من علمها ورجعوا إلى بلدانهم علماء متبصّرين ودعاةً حكماء منذرين..
لكن المحظرة اليوم محتاجة -احتياجاً ماسّاً ملموساً- إلى تحديثها وتطويرها لتواكب عالَماً جديدا مختلفا ومغايرا لعالم البادية الذي تأسست ونمت وأزهرت فيه المحظرة التقليدية الموريتانية..
فهي تحتاج إلى تطوير بنائها حتى يكون قادراً على استقطاب واجتذاب طلبة العلم من جيل الشباب الذي لا يستهويه ولا يناسبه حياة البدائية والبداوة وطلب العلم في الخِيم والأعرشة أو بيوت الصفيح المفروشة بالحصير البلاستيكيّ او حصير الأعواد أو القصب، والتي لا مراوح بها ولا مكيفات..!
مما يستوجب -ضرورةً- أن تتخذ المحاظر اليوم شكلاً جديدا في بنائها لايغفل الحدّ الأدنى من وسائل المدنية المعاصرة ورفاهها.
كما تحتاج المحاظر -كذلك- إلى تطوير مناهجها وطرق التدريس المتبعة فيها واستحداث وسائل تعليمية جديدة تناسب النمط التعليمي المحظري وتساير حركة مواكبته للعصر..
أذكُر هنا قصة صديقي الشيخ الفاضل إبراهيم الزيد من علماء دولة الكويت.. كان قد سافر قبل ثلاث سنوات من الآن إلى موريتانيا للتحضير من أجل نقل أبنائه للدراسة في المحاظر، وكان من المعجبين بدورها وغزارة علم الشناقطة من خرّيجيها.. لأتفاجأ بعد عودته أنه لم يستطع إقناع أبنائه بالسفر للبقاء هناك، لماّ رأو الصور والفيديوهات التي فيها من مظاهر البساطة والبداوة الشيء المخيف بالنسبة لأطفال مثلهم لم يألفوا أن يسكنوا في أماكن بتلك البدائية والتقشف.. ورغم محاولته إقناعهم بأنه سيوفر لهم من تلك الأمور التي عهدوها وألفوها وأنهم إن صبَروا سينالون العلم الغزير والمكانة العالية إلاّ أنهم لم يوافقوا على السفر، ولو أنهم وافقوا ما كانوا ليصبروا على مكابدة تلك الأجواء..
لذا وجب التنويه والإشادة بالجهود المتميزة والمبهرة التي يقوم بها بعض جلّة العلماء في هذا الاتجاه مثلما فعل العلاّمة محمد الحسن ولد الددو ببنائه مركز تكوين العلماء في العاصمة نواكشوط..

كما ـن لنا بعض الجهود المتواضعة في غامبيا والسنغال، منها على سبيل المثال: بناء محظرة في غامبيا في منطقة أهل درامي وقد انتقلت إليها محظرتهم التقليدية التي في المقطع السابق..
ولنا سعيٌ لإتمام محظرة علمية تنحو  هذا النّحو من التطوير مع المحافظة.. سنعلن انطلاقة أعمالها واستقبالها للطلبة قريبا بإذن الله تعالى .

 

ريم آفريك: ىظاهرة الاستعراب تتطور وتزداد في غرب إفريقيا، رغم أن الفرنسية والانكليزية هما اللغتان المسيطرتان على الإدارة والتعليم هنالك، فماهي قراءتكم لهذه الظاهرة وجذورها وكيف ترون مستقبلها؟
الدكتور عبد الرحمن موسى
لايخفى على علمكم الكريم أن دول غرب إفريقيا منذ استقلالها وما قبله كانت فيها أُسر علمية تهتم بالجوانب الدينية والروحية، ويستوجب ذلك من أفرادها ولاسيما من في الصدارة منهم تعلّم اللغة العربية ومبادئ علم الشريعة، وغالبا ما ارتبط تعلم تلك الأسر وأولئك الأفراد منها بمحاظر موريتانيا وبمشايخها الصوفيين..
وقد زاد انتشار العربية في تلك المجتمعات الإفريقية في الآونة الأخيرة نتيجة توجيه الكثيرين أبناءهم للدراسة في المحاظر والمدارس الموريتانية، حتى أصبحت محاظر كبرى في نواكشوط وبتلميت وغيرهما من المدن الموريتانية يستأثر بها طلبة علمٍ من غامبيا والسنغال ومالي وغينيا، وأصبحت أعداد المنتسبين من تلك الدول للمعهد العالي ومعاهد إسلامية أخرى في تزايد مضطرد، بل إن أعدادا كثيرة أخرى من طلبة العلم من تلك البلدان التحقت بجامعات إسلامية في السعودية وفي مصر وغيرهما من الدول الإسلامية، لكن ليس بالقدر الذي في موريتانيا ولا بمستوى الاستفادة التي يحصلون عليها من محاظرها ومؤسساتها العلمية..
والذي دفع إلى هذا الاهتمام بالعربية والعلوم الإسلامية أمور منها:
- عزوف كثير من الأسر في تلك الدول عن حياة الغابات والفلاحةوالتنمية الحيوانية بفعل الجفاف والفقر.. وانتقالهم إلى المدن الكبرى في تلك الدول، ما يستلزم توجيه الأبناء إلى التعلم والتحصيل لإفادة أنفسهم ومجتمعاتهم تلك ..
- ثم إن المدارس في أغلب تلك المدن مسيطر عليها من المنصّرين والقاديانيين، وليس منها سنّيّاً إلا أقلّ القليل للأسف الشديد.
- أضف إلى ذلك ما تتيحه الدراسة الشّرعية والعربية للشباب من مكانة اجتماعية ودينية وروحية مرموقة، تخولهم من المكاسب ما لا تخوله لأقرانهم الوظائف التقليدية الرّسمية في الغالب .
وفي الصور التالية زيارات قمت بها لمحاظر خاصة بالطلبة الغامبيّين في منطقة تفرغ زينة بالعاصمة نواكشوط، حيث كنت أتردد عليهم لإفادتهم وتفقد أحوالهم من حين لآخر ولاسيما في المناسبات والأعياد.. وأعينهم بما يتيسر لديّ..

ريم آفريك: للجاليات الموريتانية في دول الخليج أدوار متعددة، فماذا عن الدور العلمي والدبلوماسية الشعبية، وما تقييمكم لأداء الجالية الموريتانية في الكويت بشكل خاصّ..؟
عبد الرحمن موسى 
حين نتحدث عن الجاليات الموريتانية في الخليج فإننا نركّز -أساساً- على أربع دول منه، هي التي فيها وجود عدديّ معتبر، وهي السعودية تليها الإمارات ومن بعدها قطر ثم الكويت، أنا عُمان والبحرين فلايتعدى الوجود الموريتاني فيها أفراداً قلة، لهم دورهم الكبير وتأثيرهم العلميّ المهمّ..
وقد نستغني بالإجمال عن التفصيل والتخصيص في حديثنا عن هذه الجاليات؛ إذ أحوالها متشابهة وأدوارها متقاربة إلى حدّ كبير..
وهي في المجمل لاتزال كما كان أسلافها من الشناقطة الأُول تسهم إسهامات علمية كبيرة، وتحفظ لبلاد شنقيط تلك الصورة الناصعة المكينة في وجدان أهل الخليج العربيّ..
ورغم تزايد أعداد الموريتانيين المقيمين في السعودية وفي قطر في الفترات الأخيرة إلاّ أن الغلبة في الظهور ظلت للعلماء وطلبة العلم والمدرّسين المهرة من خريجي المحاظر والمعاهد العلمية المؤصِّلة.. مما أبقى على نصاعة النسبة إلى شنقيط وما ترمز إليه وتحيل عليه من حمولة معرفية وأخلاقية متفردة..
وفي الكويت التي أقيم فيها الآن -بعد أن كنت درست في الجامعات السعودية وتنقلت بين بلدان الخليج الأخرى- تقوم الجالية الموريتانية بدور علميّ كبير ومرموق، وذلك رغم أن عددها ليس بالكبير، ولكنها في الجملة ما بين علماء وطلبة علم كبار، ويمارس غالبها مهنة الإمامة والتدريس والبحث العلمي، ما جعلها مقصد طلبة العلم الكويتيين وغيرهم، الراغبين في تعلّم علوم اللغة العربية وبعض المتون الفقهية، وقد استطاعت هذه الجالية أن تجدد عهد الشناقطة وسمعتهم في هذه البلاد بعد أن كانت تخمد جذوتها؛ نظرا لانقطاع العلماء عنها فترات طوالاً من الزمن وقلّة من استوطنها منهم وبرز فيها في الفترات السابقة منذ بدايات القرن السابق إلى ما قبل غزو العراق وما بعده بقليل..
فكان وجود هذه الجالية العلمية المتميزة علماً وأخلاقاً وأمانة واستقامة إذكاءً وإحياءً للمكانة العلمية الكبيرة للشناقطة وسفارتهم التي ميزتهم عبر العصور وعن سائر الجاليات العربية الأخرى.. ألا وهي سفارة العلم والدِّين والأخلاق.

ريم آفريك في ظلّ الدولة المعاصرة والقيم الديمقراطية، ما هو الدور الذي يمكن أن تؤديه المرجعيات الدينية التقليدية والأسر العلمية..؟
عبد الرحمن موسى: 
دور الأُسر العلمية والمرجعيات الدينية ينبغي أن يكون دائما وفي كل الأحوال والظروف دورا إصلاحيًا مؤازرا وموجها للأنظمة وسياساتها، ولا يتناقض ولا يتعارض مع الديمقراطية ولا مع الدولة المعاصرة -إطلاقا- إلا إذا انحرفت بربابنته الأهواء أو الأطماع في بلدٍ ما من البلدان..
ولذا نجد هذا الدور ماثلاً حتى لدى أقوى الدول مدنية وأعرقها ديمقراطية، لها مرجعياتها الدينية وأسرها التقليدية التي تحتفظ لها بمكانتها ورمزيتها ودورها التوجيهيّ المساند..
وفي بلداننا الإفريقية ظلت الأسر العلمية مناراً للإصلاح السياسي والاجتماعي ومقصدا لفئام عريضة من بسطاء الناس تؤويهم وتُرشدهم وتتكفل بهم؛ تكثيراً للأسوياء في المجتمع، وصونا له عن الهلاك الذي يسببه شيوع الانحراف..
وهكذا نجد في البلدان المجاورة لبلادنا أسراً علمية ومرجعيات دينية تسهم إسهامًا كبيرا ملموسا في تعزيز السلم المجتمعي وتقوية ترابطه وتعاونه على البر والخير والإصلاح..
وليس يخفى ما للكثير منها من دور كبير في الأخذ بأيدي الأنظمة الحاكمة إلى إقامة العدل والقسط بين الناس.
وإن حصل من بعضها خلاف ذلك فهو من الشذوذ الذي يقوي القاعدة العامّة ولايضعفها.

ريم آفريك :يمثل التراث العلميّ والفكري للشيخ سيديا الكبير وأحفاده ثروة مهمة في سياقها الثقافي الموريتاني، فهل من مبادرات لإنقاذ هذا التراث وتثمينه وتقديمه للنخبة المثقفة؟

عبد الرحمن موسى: للأسف.. لم يخدم التراث العلمي لهذه العائلة العلمية الكبيرة في عطائها المدون وغير المدون..
لم يخدم من أبنائها كما ينبغي، ولم يقدم للباحثين من خارجها ليقوموا بخدمته، فبقي حبيس مكتبات لدى بعض أفراد العائلة، يضنون بها عن دُور البحث والنشر بداعي المحافظة عليها، فتضيع وتفقد مكانتها وصلاحيتها بين رفوف عتيقة منآكلة..!
وبالرغم من هذا التعسف في احتكار تلك المراجع العلمية النادرة والمهمة، إلاّ أن أعمالاً فردية وجهودا ذاتية لبعض الباحثين الوطنيين تستحق الإشادة والتقدير، إذ سعت إلى نشر وتحقيق القليل مما أتيح لها من هذا التراث الكثّ الفريد، ومن ذلك تحقيق وطباعة بعض الدواوين الشعرية وبعض الرسائل والمختصرات الفقهية واللغوية..
والأمل كبير في أن نتمكن في القريب من تدارك الوضع بالسعي لتنسيق عال المستوى بين مكتبات العائلة وبين الناشرين والباحثين الوطنيين وغيرهم؛ سعيا لخدمة هذا التراث العلمي الذي يستحق أن يبرز ويعرّف به، وخدمة لطلبة العلم في مختلف البلاد.