أوروبا ومنطقة الساحل.. كيف تفلت أخطر منطقة في العالم من يد الغرب؟

ثلاثاء, 10/24/2023 - 08:35

من الواضح أن إيمانويل ماكرون وجد صعوبة في الاستسلام؛ حيث تردد الرئيس الفرنسي لمدة شهر قبل أن يعلن، مؤخرًا، انسحاب قواته من النيجر، والاستجابة لمطلب المجلس العسكري الذي استولى على السلطة في نهاية يوليو 2023م. وهو الانقلاب الثامن من بين تسعة انقلابات شهدتها منطقة غرب ووسط إفريقيا منذ عام 2020م، وهي منطقة نفوذ فرنسا؛ القوة الاستعمارية السابقة.

 

ففي كلٍّ من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، ومؤخرًا الجابون، تمّت الإطاحة بالحكومات الفاسدة التي غازلتها فرنسا؛ بهدف خدمة مآربها الخاصة ولأغراضها الدينية، بينما هتف الناس في كل مكان أمام منفذي الانقلاب، قائلين: "يسقط المستعمرون الجدد.. وداعًا فرنسا!"

 

وكان القرار الذي اتخذه ماكرون بالإخلاء العسكري في النيجر بمثابة "إعلان إفلاس" سياسي متأخر؛ فقد أصبحت سياسة فرنسا الأبوية في إفريقيا، لا تُحرز سوى الخراب. والآن تشعر دول غربية أخرى بعواقب ذلك؛ فقد قرر الحكام العسكريون الجدد إنهاء تعاونهم مع شركائهم التقليديين في أوروبا وأمريكا الشمالية. وقال إبراهيم تراوري، زعيم الثوار في بوركينا فاسو: "يتعين علينا -نحن رؤساء الدول الإفريقية- أن نتوقف عن التصرُّف مثل الدُّمى التي تتحرك، في كل مرة، بأنامل الإمبرياليين".

 

الصين وروسيا.. شريكان جديدان يحظيان بالقبول

تحدث الزعيم البالغ من العمر 35 عامًا نيابة عن الانقلابيين الصديقين، الذين يسعون جاهدين لإقامة تحالفات مناهضة للغرب، خاصة مع القوة الاقتصادية العظمى "الصين"؛ لأن بكين لا تتدخل في شؤونهم الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت روسيا المورد الأكثر أهمية للأسلحة في القارة؛ حيث قامت بتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية من خلال قوات المرتزقة، فيما تقوم موسكو بتجنيد حلفاء في إفريقيا لا يدينون الحرب العدوانية على أوكرانيا، فيما يرى بعض المحللين المعنيين بالشأن الإفريقي، أن حربًا باردة ثانية تلوح في الأفق بعد الموجة الأخيرة من الانقلابات، وهي نسخة جديدة من صراع النظام الجيوستراتيجي في القرن العشرين. ويقال: إن الغرب سيكون الطرف الخاسر هذه المرة. بل إن أكثر المراقبين تشاؤمًا يخشون نهاية الديمقراطية الليبرالية في القارة السمراء.

 

ولكن لا ينبغي القفز إلى استخلاص استنتاجات استنادًا إلى منطقة أزمة إفريقية واحدة، وتعميم هذه الاستخلاصات على القارة بأكملها. فقد توصل معهد "أفروباروميتر/ Afrobarometer"، وهو معهد البحوث الإفريقي في غانا، إلى تقييم مختلف تمامًا. ففي عامي 2021/ 2022م، أظهرت الدراسات الاستقصائية التي أُجريت في 39 دولة أن حوالي ثلثي الأفارقة الذين شملهم الاستطلاع ما زالوا يدعمون الديمقراطية؛ بينما يعارض 74% الدكتاتوريات العسكرية، فيما يرفض قرابة 77% الأنظمة أحادية الحزب.

 

وفي المقابل، لا يمكن أن تُخفي هذه النتائج المفاجئة حقيقة أنه في بعض مناطق إفريقيا “تهب رياح عاتية ضد الديمقراطية”، بحسب قول إيمانويل جيما بوادي، المؤسس المشارك لمعهد "أفروباروميتر". وينطبق هذا، بشكل خاص، على منطقة الساحل -وهي حزام بري يشبه الصحراء، يمتد لمسافة 7000 كيلو متر عبر القارة بدءًا من موريتانيا ووصولًا إلى البحر الأحمر-؛ خاصة عقب وقوع سلسلة الاضطرابات الأخيرة؛ إذ سميت المنطقة إعلاميًّا باسم "حزام الانقلابات".

 

أغلبية الأفارقة لا يرغبون في مجالس عسكرية:

لقد فشلت الديمقراطية بالفعل في هذه المنطقة، ومعها النموذج الغربي للتنمية؛ لأنها لم تتمكن من الوفاء بوعدها الأكثر أهمية، وهو تحقيق الرخاء للجميع. بالإضافة إلى ذلك، تدهور الوضع الأمني ​​في الدول المتضررة بشكل كبير، على الرغم من عسكرتها فعليًّا بدعم دولي. واليوم تعتبر منطقة الساحل المركز العالمي للحركات المتطرفة؛ ولا توجد منطقة أخرى في العالم لديها عدد أكبر من ضحايا الإرهاب مثل ما يحدث هناك.

 

من ناحية أخرى، يتحدث الخبراء الآن عن أزمة متعددة المستويات تمتزج فيها الأسباب السياسية والاقتصادية والبيئية والديموغرافية في تركيبة متأججة. ففي مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تضاعف عدد السكان أربع مرات بين عامي 1960 و2020م؛ إذ يؤدي النمو السكاني السريع إلى تفاقم الصراعات فيما يخص النزاع على الأراضي الصالحة للزراعة والمراعي النادرة، والتي أصبحت أكثر نُدرة من السابق بسبب تداعيات تغيُّر المناخ من حيث فترات الجفاف الطويلة، ونُدرة هطول الأمطار.

 

كما أنه لا يمكن للبدو المُتضررين والمزارعين المُستقرين الاعتماد، فحسب، على الدعم؛ لأن مساحات تمركزهم تم تهميشها مِن قِبَل الحكومات المركزية، التي بالكاد تمتد سلطتها إلى ما هو أبعد من العواصم. أما في المناطق الريفية، فقد انهارت مؤسسات الدولة في جميع المجالات، وتم إغلاق أكثر من 11 ألف مدرسة ومركز صحي بسبب الوضع الأمني ​​الكارثي. ووفقًا للأمم المتحدة، يعتمد 18 مليون شخص على المساعدات الغذائية.

 

وفي الوقت نفسه، تسببت الظروف الشاقة وأجواء العنف في تزايد موجات هجرة اللاجئين؛ إذ تقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد النازحين داخليًّا في منطقة الساحل بنحو 3.7 مليون شخص. فلا يوجد عمل أمام شريحة الشباب، الذين لا يجدون أمامهم خيارًا سوى الانضمام بأعداد كبيرة إلى الجماعات المسلحة، أو أن يشقوا طريقهم إلى أوروبا؛ حيث تراجعت ثقتهم، بالفعل، في حكوماتهم بأدائها المتذبذب والمضطرب فيما بين السكان الفقراء وتزايد الغضب الشعبي ضد النخب الفاسدة. والآن يأمل المواطنون أن يقدم لهم الانقلابيون ومرشديهم الجدد “إنقاذًا سريعًا”؛ لأن أوضاعهم الحالية سيئة للغاية، ولن يصبح الوضع، بالنسبة لهم، أسوأ مما هو عليه بالفعل، فلم يعد ما لديهم ما يخشون خسارته.

 

تصدير الديمقراطية لا يُجْدِي نفعًا:

"الغرب هو الأفضل"…. لقد كان هذا شعارًا تردد ذات يوم؛ إذ تقدم دولة مالي مثالًا واضحًا على ذلك. لقد تمت الإشادة بها لفترة طويلة باعتبارها تلميذًا نجيبًا للغرب، وكان رؤساءها يُبشّرون بما أراد أصدقاؤهم في أوروبا سماعه؛ من حيث سيادة الحكم الرشيد، والتعددية، وسيادة القانون. لكن القِيَم والأعراف الديمقراطية لا يمكن تنفيذها بهذه السهولة مثل برامج اللقاحات؛ حيث تفتقر "الديمقراطية المستوردة" إلى الأساس الصحيح والمرتكزات المؤسسية، والنظام القانوني المستقل، والمجتمع المدني، والصحافة الحرة والخطاب المفتوح. ولكن قبل كل شيء، سيظل مفهوم التغيير التاريخي، أي برجوازية الطبقة الوسطى المتحررة، غائبًا دون أدنى شك.

 

من ناحية أخرى، تحولت استطلاعات الرأي التي تُجرَى بانتظامٍ إلى حملات انتخابية، وطقوس تصويت جوفاء. وكان المراقبون الدوليون يسارعون دائمًا إلى الموافقة على النتائج باعتباره اقتراعًا حرًّا ونزيهًا نسبيًّا، على الرغم من التلاعب الهائل، ليبقى الشعار الذي له الغلبة: المهم أن يكون هناك انتخابات”.

 

وفي مطلع عام 2009م، أشار الخبير الاقتصادي البريطاني، بول كولير، إلى أن “الديمقراطية المستوردة” قادت المجتمعات في الدول الأقل نموًّا إلى مستويات أكثر خطورة: "لقد تبيّن أن الاعتقاد المطمئن بأن الأشخاص الذين لديهم القدرة على الوصول إلى صناديق الاقتراع لن يحملوا السلاح، كان مجرد وهم، ليس أكثر"، فيما تؤكد الظروف الفوضوية في منطقة الساحل فرضية كوليير؛ حيث ظل المناخ القديم سائدًا خلف الواجهات الديمقراطية، بكل مظاهره من فساد النخب واستيلائهم على خيرات دولهم كما كانوا دائمًا. كما أصبحت المعارك حول توزيع الموارد الاقتصادية المحدودة عنيفة بوتيرة متصاعدة. واستمر الراعي الغربي، وخاصة فرنسا، يتبنَّى نفس الاستراتيجيات غير المناسبة.

 

ولكن، كيف يمكن أن يصل الأمر إلى هذا الحد؟ ماذا حدث؟! يسأل البعض أنفسهم في واشنطن وبروكسل وباريس هذه التساؤلات، خاصةً بعد أن سادت حالة من الحيرة عقب الاضطرابات التي شهدتها منطقة الساحل. ومن المثير للانتباه ملاحظة أن جميع التدخلات المدنية والعسكرية باءت بالفشل. لقد فشلت بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي التي مزقتها الحرب الأهلية فشلًا ذريعًا. وبعد تغيير السلطة في النيجر، آخر ديمقراطية رسمية في منطقة الساحل، من المتوقع أن تنهار أهم قاعدة للغرب. فالقواعد العسكرية هناك، والتي احتفظ بها الأمريكيون والفرنسيون لمكافحة الإرهاب، على وشك التفكيك. وسوف تضطر القوات الأجنبية، بما في ذلك فرقة صغيرة من الجيش الألماني، إلى الانسحاب. كما أن التعاون العسكري والتدريبي للاتحاد الأوروبي، والذي من المفترض أن يساعد في الحد من الهجرة “غير الشرعية”، معرَّض للخطر أيضًا.

 

تراجُع السياسات الأوروبية تجاه إفريقيا:

والسؤال الذي يفرض نفسه؛ ما الذي يجب القيام به؟ حتى في برلين، النصيحة الجيدة باهظة الثمن؛ حيث توخَّت استراتيجية الحكومة الفيدرالية الحذر بشأن إنشاء ما يسمى بـ"قوس الاستقرار" حول مناطق الاضطرابات بمساعدة الدول المجاورة الموثوقة. لقد تم التخلّي عن الخطة التي قُدِّمَت، في شهر مايو، منذ الانقلاب في النيجر. ومرة ​​أخرى، تتردد دعوات بشأن إعادة النظر في سياسة ألمانيا تجاه إفريقيا، فيما تكمن المشكلة الوحيدة في عدم بلورة سياسة ألمانية تجاه إفريقيا. فعلى الرغم من أن برلين تؤكد مرارًا وتكرارًا على الأهمية الجيواستراتيجية للقارة المجاورة، وسارعت مرات ومرات بإطلاق مبادرات تتعلق بالسياسات الاقتصادية والتنموية والأمنية هناك، إلا أن هذه "الشراكات"، تم إهمالها أو التعامل معها بفتور وتهميش.

 

وعلى الرغم من الاعتراضات التي تنفي هذه الفرضية؛ إلا أن إفريقيا كانت تلعب دائمًا دورًا ثانويًّا في السياسة الخارجية الألمانية، ولم يتغير هذا في ظل الائتلاف الحكومي الحالي في ألمانيا، المعروف إعلاميًّا بتحالف "إشارات المرور"، بينما ترك المجال للفرنسيين، خاصة في منطقة نفوذهم في غرب إفريقيا. لكن لم يعد لديهم الكثير ليقولوه هناك بعد الآن.

 

وفي الوقت الحالي، لا يعرفون حتى كيفية تأمين استيراد اليورانيوم من النيجر، الذي يحتاجونه لصناعتهم النووية؛ حيث يُقابَل الاستعماريون السابقون بالرفض والكراهية، ويُلقى عليهم باللوم جراء البؤس الاقتصادي الذي يعيشه المواطنون الأفارقة هناك. إنهم يتعرَّضون للإهانة باعتبارهم مستعمرين جدد يدعمون الأنظمة الباطشة من أجل استغلال الموارد الطبيعية دون عراقيل. ربما كانت هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة. ولكن في المقابل، أصبح التعاون المُرَحَّب به من جانب فصائل السلطة المحلية التي دفعت بلدانها إلى حافة الهاوية في طَيّ النسيان.

 

وعلى الجانب الآخر، تستغل موسكو هذا الفراغ الحالي، وتستخدم حملات التضليل لتغذية الاستياء ضد الغرب وتتباهَى بنفسها كـ"حليف" مناهض للإمبريالية، لم يشارك قط في استعباد ونهب إفريقيا.