"لغز كنز الفرعون".. أسرار الملك اللص الذي سرق ضريح أخته

ثلاثاء, 02/16/2021 - 11:34

 

 

خاص-الوثائقية

لماذا اختار الفراعنة قبل أكثر من 3000 عام هذا المكان لدفنهم؟ يعزى السبب في ذلك إلى هذا المرتفع الجبلي الذي يشبه شكل الهرم، إنه وادي الملوك على الضفة الغربية لنهر النيل، ويقابل مدينة الأقصر التاريخية، المسماة "طيبة" أو "ثيبة"، حيث حصلت أهم الاكتشافات واستخرج 21 مقبرة للفراعنة، لكن هنالك عدة أفراد آخرين ذوي أهمية خاصة، ولذلك أعطاهم الفراعنة فرصة الدفن في مقابر الملوك.

 

تل العمارنة.. مدينة الإله الواحد إله الشمس

في الرابع من نوفمبر عام 1922 بدأت قصة اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون، حيث وصل الإنجليزي "هاوارد كارتر" إلى هناك، وأكثر ما أدهشه هدوء المكان، يومها اكتشفوا أول درجات سلّم يمتد في أعماق الأرض، وفي نهاية السلم وجدوا عمودا خشبيا ثم بقايا صندوق أعيد ترميمه في المتحف الكبير فيما بعد.

تبيّن أن ذلك العمود هو جزء من الصندوق، وكان يحمل اسمين: اسم والد "توت عنخ أمون" وهو "أخناتون"، ثم اسم أخته الكبرى "ميريت أتون"، وهما اسمان يرتبطان بقوة ببلدة العمارنة، وهي العاصمة التي بناها الملك أخناتون، وتقع على مسافة 200 كم إلى الشمال من طيبة، وكرّسها لإله واحد وهو "آتون" وتجلِّيه على الأرض ممثلا بالشمس.

أقيمت هذه المدينة على مساحة 10 كم مربعة، وبنيت في 6 سنوات، وسماها الملك "أخيت آتون" أي أفق آتون، لاعتقاده أن "العمارنة" هي المكان الذي تشرق منه الشمس على الأرض.

وقد مهّدت هذه الديانة الجديدة لنوع جديد من العمارة تكون فيه المعابد دون أسقف، ولكن معابد "آتون" اختفت بشكل شبه كامل، ولم يبق منها سوى بعض الشظايا والأساسات التحتية، لقد هُدمَت واستخدمت حجارتها في أبنية جديدة.

باء مشروع الملك بالفشل بعد عشر سنوات متواصلة من العمل، واستحال مصير العائلة المالكة إلى مأساة، ولكن ما علاقة هذا ببقايا الصندوق الذي وجده "كارتر" على أعتاب ضريح توت عنخ أمون؟ ولماذا يظهر اسم الملك الكبير وابنته على الصندوق؟ الجواب في مقبرة تل العمارنة الملكية، حيث النقوش على جدران المقبرة تخبرنا عن المصير الذي آلت إليه عائلة الملك الكبير.

"هاوارد كارتر" عالم المصريات ومكتشف قبر الملك "توت عنخ أمون"

 

مأساة العائلة الملكية.. وباء الطاعون يضرب مصر

تظهر النقوش الأميرتين الميتتين "سيتاباندرا" و"نفرنفرورا"، ويظهر الوالدان الملك "أخناتون" والملكة "نفرتيتي" وهما يبكيان ابنتيهما، وعند مخرج إحدى الحجرات يظهر رضيع بين يدي مربية، وهو "توت عنخ أمون"، وفي حجرة ثانية تستمر القصة المأساوية، فقد انتشر المرض ثانية وتوفيت أميرة أخرى هي الأميرة "ميكيتابين". لقد توفيت وهي ابنة عشر سنوات.

ثم يظهر الملك والملكة، ومعهما الأميرات الثلاث اللاتي بقين على قيد الحياة؛ "ميريت أتون"، و"عنخ إسينباتون" و"نفرنفرورا" و"أتون تاشاريت" التي توفيت بعد فترة وجيزة، وبعدها الملكة "تايي" والدة أخناتون، ثم نفرتيتي.

ولكن ما السبب وراء كل تلك الوفيات التي فتكت بالعائلة المالكة؟ تشير المراسلات الدبلوماسية بين أخناتون وملك بابل إلى وفاة زوجة أخرى للملك بمرض الطاعون.

نجت "ميريت أتون"، وبعد وفاة والدتها تزوجت والدها الملك "أخناتون"، وحازت لقب الملكة العظمى، بينما كان شقيقها "توت عنخ أمون" ما يزال طفلا، الأمر الذي جعلها في موقف قوي يمكنها من حمل المسؤولية.

أما بقية القصة فسنجدها في متحف القاهرة، وفي كنز "توت عنخ أمون" نفسه، حيث يدرس "مارك غابولد" هذه الكنوز ليحاول إثبات أن شخصية أخرى تختفي أسرارها خلف تلك الكنوز.

تمثال الأخت "ميريت أتون" أكثر الأشياء قداسة في كنز "توت عنخ أمون"

 

ضريح "ميريت".. آثار سرقة الفرعون الصغير

في أحد الصناديق التي تحوي الأجزاء الداخلية لجسد "أمون"، توجد نقوش غريبة، إنها نقوش مطموسة بنقوش ظاهرة للملك، وبمقارنة النقوش المطموسة مع مثيلاتها تبين أنها لملكة صالحة تخدم زوجها، وقد أعدّ هذا الناووس (الغلاف الخارجي للضريح) لوضع أجرائها الداخلية فيه. ومن المؤكد أن هذه الملكة هي "ميريت أتون"، وأن هذا الناووس صنع لأجلها، ولكن "عنخ أمون" قام بإحداث تغييرات فيه ليلائمه.

ولكن ماذا عن التماثيل المرمرية الأربعة التي وجدت بداخله؟ حيث يظهر تمثالان لوجهين يحدقان في بعضهما وكأنهما يتناجيان، وعلى الصندوق الذي يحوي هذه التماثيل يوجد نقشان يخصان عنخ أمون؛ أحدهما يؤرخ لفترة حكمه، والثاني اسمه عند الولادة، ويبدو أن هذا الاسم تغير في الزمن البعيد، ليدل على الملك الصغير عنخ أمون.

يتبين لنا من هذا أن أكثر الأشياء قداسة في كنز "توت عنخ أمون" قد يكون صُنِع لشخص آخر، والمرشح على الأرجح هي "ميريت أتون" مرة أخرى. وهنالك أدلة أخرى لا شك فيها، مثل سوار وجد في كنز "عنخ أمون" كذلك، غفل عنه الكهنة الذين دفنوا الملك الصغير، ويظهر عليه اسم الملكة الصالحة واضحا، وكما يعلم الجميع: لا وجود لجريمة كاملة.

لكن هنالك أجزاء في الكنز لا يمكن أن تكون وضعت عن طريق الخطأ، فماذا يعني وجود تمثال كامل لأنثى؟ لا يمكن تفسير ذلك إلا أن مقتنيات الملكة الشابّة، ذات الـ16 ربيعا قد نقلت إلى مقبرة الفرعون الصغير، وهي واحدة من بين بضعة ملكات حكمن مصر، ولكن فترتها تميزت بالحرج الشديد للمملكة تحت وطأة الوباء.

الناووس هو الغلاف الخارجي للضريح حيث يوضع أجراء الجثة الداخلية فيه

 

اندلاع الطاعون ونقص البرونز.. فناء المملكة

بالإضافة للمرض فقد افتقرت مصر لعنصر هام في تسليح جيشها، وهو البرونز. وقد فقدت مصر إمدادات هذا العنصر عندما فقدت سيطرتها على مدينة قادش في شمال سوريا، فأمر "أخناتون" الأب باستعادة مدينة "قادش" ذات الأهمية الإستراتيجية على طرق التجارة الدولية، ولكنه مُني بهزيمة منكرة.

بعد تلك الهزيمة مات الملك، ودفن حيث أمر في تل العمارنة، وشعر المصريون أن ملكهم قد أضلهم عن آلهتهم، وأنها غضبت عليهم، ولذا فقد تغيرت سمعته إلى ملك سيء، وأرادوا التخلص من أي أثر لوجوده. وكانت "ميريت أتون" هي الزوجة الملكية لأخناتون، فورثت ملكه واستوت على عرش مصر عندما كان عمر أخيها "توت عنخ أمون" أربع سنوات، وقد بدأت الملكة الجديدة بتحضير طقوس ومراسم دفنها كما يفعل الفراعنة الجدد.

وبينما كان "مارك غابولد" يواصل دراسة مقتنيات الفرعون، يلاحظ أن شبح الملكة ما زال يطارده على أجزاء مختلفة من صندوق المستلزمات اليومية، فيظهر نقش اسم الفرعون الصغير بالهيروغليفية على هذا الصندوق، ولكن مع إمعان النظر يتبين أن اسم الملكة "ميريت" قد طمس ثانية وكتب فوقه اسم الملك.

وعلى قطعة من المجوهرات موجودة في ضريح الملك أيضا، يمكن رؤية الإلهة "نوت"، وقد كانت عبادتها محرمة في عهد الملك، ولا بد أن صاحب هذه القطعة كان قبل عصر الملك، أي عندما كانت عبادتها مسموحة، ويظهر أن الإلهة تتحدث: "أمد يدي لابني "نيبنيفيرور" المنتصر، أضع ريشي على كمالك "توت عنخ أمون"، ومرة أخرى يظهر اسم الملكة مطموسا تحت اسم الملك الصغير.

قناع الملك "توت عنخ أمون" المصنوع من الذهب الخالص، ووزنه 10 كيلوغرامات

 

"ميريت" الماكرة.. امرأة على عرش الفراعنة الرجال

لاحظ "مارك" على "الناووس" أن كتابة اسم الملك كانت واضحة، ولكن الأحرف مبعثرة، وتظهر مسافات غير منتظمة بينها، وأينما نجد اسم الملك على الغلاف، نستطيع ملاحظة أن ورقة الذهب التي كتب عليها تبدو أكثر لمعانا من بقية أوراق الذهب التي تغطي الضريح، مما يعني أن كل هذه الأضرحة والنواويس صنعت لأحد أفراد الأسرة الملكية، ثم وقع تغييرها.

على القناع الرئيسي للملك "توت عنخ أمون" والمصنوع من الذهب الخالص، ووزنه 10 كيلوغرامات، ظهرت دلالات أخرى تدل على أن هذا القناع مصنوع للملكة "ميريت". ولكن أنّى لأنثى أن تحصل على كل هذا الاهتمام والتبجيل، في مملكة لا تلقي بالا إلا للفراعنة الرجال؟ لا بد أنها صنعت شيئا استثنائيا أعطاها كل هذه المميزات.

في مقبرة العمارنة ما يدل على ذلك، ففي ضريح "ميرير الثاني" المسؤول عن النساء الملكيات تحت حكم أخناتون، تظهر صورة أخذت للملك في السنة الـ12 للحكم، قبل أن تصيب مأساة الوباء العائلة، يظهر فيها الملك وزوجته التي تبدو حاملا بالأمير الصغير، وخلفهما الأميرة "الست".

والصورة الثانية بعدها بثلاث سنوات، وبعد وفاة "أخناتون" -حيث يظهر زوج ملكي آخر- فتظهر "ميريت آتون" وعلى يسارها "سمنخترع"، وهو فرعون لم يصل إلى سدة الحكم أبدا، ويصور المشهد الكلي مؤامرة فيها مكر وقوة، تقودها الملكة الفرعونية ضد عدوها الرئيسي، المملكة الحثّيِّة، ويظهر فيها الفرعون الصغير، متواريا عن أنظار الأعداء، في رعاية مربيته.

عاصمة المملكة الفرعونية تنتقل من تل العمارنة إلى طيبة جنوبا

 

من تل العمارنة إلى طيبة.. عودة إلى عاصمة الآلهة الطبيعية

راسلت الملكة "ميريت" عدوَّها الحثي طالبة منه تزويجها بأحد أبنائه، وأتاها جواب الملك الحثي: "لقد أرسلت ابني، ولكنه قتل في الطريق إليكم"، من الواضح أن" ميريت" لم تكن تنوي الزواج بالأمير الحثي، ولكنها كانت تحاول شراء الوقت، من أجل تعزيز إمدادات البرونز الذي يحتاجه جنودها. وليس واضحا ما إذا كان مات أو قتل.

وبفضل هذه المناورة الدبلوماسية، حازت هذه الملكة الشابة على ثقة وحب المصريين والأسرة الملكية. وفي هذه الفترة بالضبط استغنت الملكة المصرية عن فكرة الإله الواحد، منفصلة عن آراء والدها وأعماله، وقررت كذلك أن تترك العمارنة وتتوجه إلى طيبة، حيث الناس هناك يعبدون كل الآلهة الطبيعية، وأخذت معها جميع أفراد أسرتها الملكية، بما فيهم الأموات، فنقلتهم إلى مقابر وادي الملوك.

اختارت الملكة لوالدتها وجدتها "تايي" مستقرا أخيرا كان لجدها الأول "أمنحوتب الثالث"، وقد وجدت كتابة باللغة الهيراطيقية تحدد تاريخ التأبين، وضعت المرأتان في تابوتين جديدين، بجانب ناووس الفرعون الكبير، وهو الشخصية الرئيسية في تلك الحقبة التي حكمت لأكثر من 40 عاما.

وبعد شهر واحد اعتلى شقيقها العرش وأصبح "توت عنخ أمون" ملكا، واختفت أخته الملكة "ميريت"، والأرجح أنها توفيت، ولكنها لم تدفن في المقبرة التي أعدتها، واستخدمت بالكامل مدفنا للفرعون الصغير.

صورة تجمع الفرعون الصغير مع أخته الكبرى "عنخ إسن أمون"

 

"من يدفن يرث".. إعادة الدفن لاستحقاق الإرث الملكي

وجد في قبر الفرعون الصغير عرشه وصورة له مع أخته الكبرى "عنخ إسن أمون" التي يبدو أنه تزوجها، ويشير تلف الزخارف في أسفل كرسي العرش إلى أن الملك الصغير قد اعتلاه وهو في سن السابعة أو الثامنة من عمره. وإذا كان الأمر كذلك، فلمن بني هذا العرش الكبير في الأصل؟ الإجابة على الجزء الخلفي من الكرسي.

هنالك ترميم في الصفائح الذهبية التي تغطي الكرسي من الخلف، ويبدو بوضوح أن بعض صفائح الذهب قد انتزعت، وألصقت مكانها قطع أخرى، وهنالك دليل آخر موجود في اللوح المرمم الذي يؤرخ لاستواء توت عنخ أمون على العرش، فقد وردت فيه عبارة غامضة: ثم بعد أيام اعتلى جلالته عرش والده، وحكم ضفاف حورس.

بعد توليه العرش، كان على الفرعون اليافع القيام بعمل رمزي، فربما كان والده يعتبر ملكا سيئا، لكن "عنخ أمون" اضطر أن يحذو حذوه، ويبدو أنه قد نقل ضريح أبيه من العمارنة إلى مقبرة الملوك، وقد ووري الجثمان في ناووس لإحدى زوجات الملك الأجنبيات، وهذه رمزية (من يدفن يرث)، أي أنه كان عليه أن يدفن أباه حتى يرث ملكه، وهكذا صار "توت عنخ أمون" الفرعون الجديد.

مومياء توت عنخ أمون هي واحدة من أقل الميمياوات المكتشفة جودة

 

تقنيات التحنيط.. سرّ تفوّق المصريين القدماء

توفي "توت عنخ أمون" وهو ابن 17 سنة، بعد أن حكم عشر سنوات، وقد جرى تنظيفه بشكل دقيق، وإزالة الشعر عن جسده بالكامل، ثم انتزع المخ من رأسه عن طريق الأنف وكذلك عن طريق فتحة في عنقه من الخلف، وتم سكب سائل صمغي في جمجمته. وأزيلت أحشاؤه ورئتيه وقلبه، ووضع النترون (وهو سائل ملحي) في باطنه وحول جسده لمدة ستين يوما.

ثم أدخل قماش مغطس بالراتنج في جوفه، وسكب السائل نفسه ممزوجا بالنبيذ الحلو على جسده، وقد أدت هذه الإجراءات المبالغ فيها إلى إحداث حروق في جسده، ما جعل مومياءه من أقل المومياوات المكتشفة جودة. ولفّ الجسد بطبقات متعددة من الضمادات، وضعت بينها كافة أنواع التمائم والأسلحة والجواهر.

صور الجد "آي" الملك الجديد الذي دفن حفيده "توت عنخ أمون" الصغير

 

الجدّ يدفن حفيده.. نهاية أصغر فراعنة مصر

احتاج "كارتر" إلى عدة أسابيع لتفكيك ما صنعه الكهنة المصريون بالجثمان قبل 33 قرنا، واخترع آلات وروافع الحبال من أجل رفع طبقات التوابيت المختلفة، وتحرير المومياء من الأقنعة الذهبية التي تغطيها، واستطاع تعرية الجثة بالكامل، ما عدا القبعة المنسوجة التي كان يعتمرها الفرعون على رأسه، وكان على صدره درع مرصعة بالذهب والأحجار الخزفية الزرقاء.

فقد "توت عنخ أمون" معظم كنوزه، فقد سرقها لصوص المقابر وانتزعوا جزءا من جثته عندما سرقوا الدرع المرصعة عن صدره، لكن ناووس الغرانيت الوردي نجا من السرقة. ولوحظ أن المقبرة التي دفن فيها الفرعون كانت صغيرة جدا، ويبدو أنها للعامة، ولكنها كانت مزخرفة بعناية.

ويظهر في الرسومات شيء غريب جدا، حيث تظهر إحدى الصور الملك الجديد الذي دفن "توت عنخ أمون" الصغير، لقد كان جده "آي" الذي تولى الملك من بعده، ولم يحكم سوى ثلاث سنوات، لتنتهي بنهايته فترة الانحسار والاضطرابات، ويأتي عصر النهضة.