المجتمع الموريتاني ووجْهٌ من تأثير مواقع التواصل الاجتماعية

أربعاء, 05/26/2021 - 11:55
د. عبد الله محمد غلام باحث وأستاذ جامعي

صار لفظ “مواقع التواصل الاجتماعية” من الألفاظ الدارجة على الألسن المُتداولة بين العامة والخاصة، الأمر الذي يجعل التعريف به ضربا من التعقيد، انطلاقا من مبدأ توضيح “الواضح” يزيده غموضا. وكلمة “الوضوح” هنا نسبية الدلالة، إذ لا تعني سوى المستوى الذي يسمح بتبادل المصطلح بين العامة، بغض النظر عن إشكالاته المعرفية.

ومن المعلوم أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ميَّالٌ إلى التواصل والتفاعل مع غيره. وقد أفرز التطور التكنولوجي في مجال الاتصال أنماطا من التواصل تجاوزت حدّ التصور، حيثُ كسرت حاجِزَيِ الزمان والمكان، مما هيّأ لأعدادٍ بشرية كثيرة التواصلَ في آنٍ واحد ومساحة افتراضية واحدة. إذْ ليس للمكان الافتراضي حدود ومساحات تضيق بالمتواصلين. إنها شبيهة حدّ التماهي بالنائم الذي يجوب الأرض ذهابا وجيئة في دقائق محدودة لا يُعيقه بُعد المكان ولا قِصر الغفوة. تراه بجسمه معك وبخياله وتفاعله مع آخرين، فهل تطور الحياة يؤكّد زيفها وأنها محض خيال؟ نُحاول في هذه العُجالة إنارة بعض الجوانب التي تتصل بمواقع التواصل الاجتماعي مُستمَدّة من واقعنا وما نعيشه من تأثير هذه المواقع سياسيا وثقافيا واقتصاديا … إلخ. وسيكون تركيزنا على موقع “الفيسبوك” لأنه أدخل في حياة مجتمعنا من غيره من المواقع.

الثورة الإعلامية الفيسبوكية

شكلت مواقع التواصل الاجتماعية – بحكم ما تمتاز به من خصائص الانتشار والبساطة – ثورة على وسائل الإعلام التقليدي، حيثُ فرضت نفسها كوسيلة أنتجها اختراع الإنترنت، فأمست عوضا عن الإعلام التقليدي المُنظَّم (التلفزيون ـ الإذاعة ـ الصحافة).

يجد الفرد العادي ذاته في مواقع التواصل الاجتماعي؛ فبعد أن كان هذا الفرد مُستقبِلا دائما، بوصفه فردا من الجمهور المستهدَف، أتاح له الفيسبوك أن يكون مُرسِلا ومستقبِلا في الوقت نفسه، فصار بذلك عُنصرا فاعلا في عملية التأثير الإعلامي.

مما يعني أنّ مواقع التواصل الاجتماعية تنْمَّحي فيها الثنائية الإعلامية القائمة على مُرسِلٍ ومستقبِلٍ، متنجٍ ومستهلكٍ. فخفَّ تأثير السلطة السياسية على الرأي العام، إذ لم تعُد المالك الوحيد للإعلام، والتأثير به.

فكانت وسائل التواصل الاجتماعية بهذا المعنى ثورة على الإعلام، ثم هي – في بُعد من أبعادها -ثورة على العلم والمعرفة، وذلك لأن الحدود المعرفية في أرضية “الفيسبوك” مطموسة المعالم، فقد مكّنت خاصية التفاعل Like التي يتيحها الفيسبوك من ولُوج غير المختصين إلى الأعمال الفنية والأدبية وتقييمها تقييما يعتمد على إعجابٍ ذاتيٍ لا يمُتُّ إلى العلم بصلة، سواء كان ذلك الإعجاب صادقا كالذي يصدر من غير المختصّ، أو كان كاذبا قائما على الزبونية والمُجاملة كالذي يصدر من بعض المُختصين.

مما قد ينجَرُّ عنه تمييع المعرفة وخلق مبدعين زائفين مُزَيَّفين. وهي عملية مُعقّدة الأبعاد، بالغة الخطورة، إذ تُقنع المُجتمع في محطّة من محطاتها بالزَّيف، فيحِلُّ الجاهل محلّ العالم بمباركة من المجتمع المُضَلَّل. والأخطر من ذلك أنها في محطّة أخرى من محطاتها قد تُقنع الجاهلَ نفسَه بالمعرفة، فتبدأ شخصيته بتشكُّلٍ جديد، فيتغيَّر سلوكه حسب نسبة استبطانه لصدق التضليل، وهنا أُورد رسما معبرا لأحد رسّامي البلد “خالد مولاي إدريس” تختصر مشهد التضليل.

حيثُ يظهر المتفاعلون على وسائل التواصل الاجتماعية كآلاتٍ نافخةٍ، في حين يظهر المدَوِّنون كبالونات، ظاهرها الشبع وباطنها الخواء.

كيف يتم التضليل الإعلامي؟

تعتبر السمعة من أهم الأمور التي يُحافظ عليها الفرد بشكلٍ شِبهِ جِبِلي، وسمعة الفرد هي تصوُّره في أذهان المجتمع، أو هو كما يراه الآخرون.

وقد كانت سمعة الفرد محدودة بالحيِّز الذي ينشأ فيه (قرية ـ مدينة ـ بادية …)، فاتّسع نطاقُها باتّساع التواصل الحديث، الذي جعل من العالم قرية واحدة، وهو اتّساعٌ يفرض على الفرد أن يُجزِّئ سُمعته إلى أجزاء، أو إلى جزئين اثنين على الأقل: (سُمعة واقعية وسُمعة افتراضية)، الأولى ضرورية لخلق جوٍّ يُلائم المجتمع الذي يُعايشه بشكلٍ فِعلي، وهي صارمة غير مرنة، الفرد فيها مجبر على مُسايرة منظومة القيم العامة للمجتمع.

وأما الثانية فتتَّسم بالمرونة والتذبذب وذلك لأجل نَظْم مجتمع افتراضي تختلف قيمه ومشاربه، فيجد الفرد نفسه مضطرا لتلمُّس قاسم مُشترك بين هذا المجتمع العبثي، وهنا يضرب صفحا عن العلم والصدق والجدية في الأمور، ويعمد إلى أمور تجمع له شتات هذا المجتمع الفوضوي، فيقع اختياره على ما يستهوي – في الغالب – المجتمعات البدوية المتخلفة، كالهزل والأمور المُضحكة، ولذلك تجد متابعي المجانين على صفحات التواصل الاجتماعية أكثر بكثير من متابعي الباحثين والمفكرين والأكاديميين، لأن المجتمع المتخلف أكثر فراغا من غيره من المجتمعات.

ومن الوسائل أيضا انتهاج نهج ذي بُعدٍ جِنسي في مجتمع يغلب على كثير من شبابه التَّديُّن الاجتماعي، حيثُ طرأت بعض المظاهر الاجتماعية في بلدنا على وسائل التواصل الاجتماعية، كالبثِّ المباشر للنساء، وكعبارة “عمري 25 سنة أريد التواصل على الخاص… مصحوبة بصورة غير محتشمة”، فتجد التعليقات والإعجاب الكثير. ويعود ذلك إلى ما يتمتع به هذا الفضاء من حرية في التعبير، وبُعدٍ عن الرقيب الاجتماعي الواقعي، وانتفاء الحرج بذلك البعد. وهي أمور تُفسِّرُ كثرة متابعة بعض المُهرِّجين والجاهلين من الجنسين. هذا مع بعض الاستثناءات القليلة. ويقتصر هذا النوع من التضليل – في الغالب – على الجانب الاجتماعي.

وأما التضليل السياسي فهو الذي يصدُر عن شخص محسوبٍ على النخبة ولو ادّعاء، ويُشترط فيه أن يُكوِّن جمهورا من المعجبين قبل عملية التضليل من خلال مراعاة توجههم وما يرمون إليه. حتى إذا استحكمت الثقة منهم، وتتابع الإعجاب، ظهر لهم بمظهر المحلّل السياسي المحنك المُحايد.

ويُعتَبَر إظهار الحياد شرطا أساسيا لعملية التضليل هذه، يقول”هربرت أ.شيللر “ لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر، لابد من إخفاء شواهد وجوده. أي أن التضليل يكون ناجحا عندما يشعر المضلَّلون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية.

بإيجاز شديد نقول: إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار المستمر لوجوده أصلا”

لأن الإنسان يُحب الصدق بفطرته. وفي مجتمع تغلبُ فيه المصالح الشخصية والتحول السياسي – تبعا لها – على المصلحة العامة – كمجتمعنا – يكون الشخص عُرضة للاتهام بعدم الحياد في كل شيء.

محطَّتي الوهْم

سبق أن ذكرنا أن من محطات الوهم الخطيرة اقتناعُ المجتمع بنخبوية الجاهل وأهليته، ومن آيات هذه المحطة الإعجاب الكثير من الفئات المختلفة بالمنشورات المختلفة، وخاصة المنشورات ذات الطابع العلمي البحت، فحين تجد كمًّا كبيرا من الإعجاب صادرا عن جهال بقضايا معرفية لا يفقهون عنها شيئا، أو صادرا عن غير جاهل ولكنه إعجاب بمسألة تنتمي إلى حقل معرفي يجهله فاعلم أن المُدوِّن وصل محطته الأولى (التمكّن من نفوس العامة).

وأما المحطة الثانية فمن آياتها البينات أنك ترى الشخص يجعل من نفسه ميزانا للآخرين، فيُكثِر الحديث عن نفسه، كأن يقول: “ألم أقل لكم كذا..” أو “لم أكن يوما من الأيام أفعل كذا..” بل إنه يُكثر الحديث عن حياته الخاصة، كأن ينشر صورة فيكتُب “اليوم في رحلة إلى كذا..” أو “اليوم في زيارة لفلان..” أو “اليوم حين كنتُ في تعبئة لحزب كذا..” أو “اليوم خصني المسؤول كذا بلقاء..” إلخ. في هذه المحطة يصل المدوّن إلى محطّته الأخيرة، التي تجعله يخلط بين الواقع والخيال، ويبدأ في تغيير سلوكه، يهاب أن يظهر للمجتمع بمظهر لا يناسب هذه المحطة – وإن خانه واقعه الفعلي. لاعتقاده بأنه صار رمزا من رموز المجتمع، “يقول: د. آلان دوننو” “نجحت هذه المواقع في “ترميز التافهين” كما يقال، أي تحويلهم إلى رموز.

ما يجعل من كثير من تافهي مشاهير السوشال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر النجاح، هو أمرٌ يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككل”، وهذا التقليص هو الذي أسميناه الزيف والتضليل.

أين الأكاديميون والباحثون والمفكرون

في هذه الأرضية المختلطة الغريبة ينقسم الباحثون والأكاديميون والمفكرون إلى أقسام، وذلك بعد إيمانهم الجازم بعدم صلاحية هذا الجوّ المختلط لبضاعتهم، فيعمد قسمٌ إلى النأْيِ بنفسه عن هذا المُعترك، إيمانا منه بعدم تأثيره فيه، وعدم حصوله على المكان الذي يليق به فيه، فيترك البغاث تستنسر، مُنشدا قول الشاعر:

ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهرّ يَحكي انتفاخا صولة الأسد

في حين يستسلم قسم آخر لأمر الواقع، فيدخل إلى هذا العالم، غير أنه يرى عدم صلاحيته للتصدُّر والمنافسة، إذ المقام مقام ربابة.

ربابة ربة البيت *** تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات *** وديك حسن الصوت

فلا يجد خيارا أجدى من التركيز على مدح شخص ذي تأثير سياسي ليكون السبيل إلى ولوج عالم لا مكان فيه للمتفرِّج على الأحداث. أما القسم الثالث فيعمد إلى خلق حِلفٍ من المدونين، ويبدأ في جمع الزبناء، يتبادل الإعجاب والتعليق مع من استطاع، فيُعجبه ما لا يُعجب طفلا في مراحل تعليمه الأولى، ويُضحكه ما لا يُضحك مُتَسوِّلا طامعا في العطاء، فلم يعُد الضحك عنده ردة فعل طبيعية.

نتيجة حتمية

في جوٍّ كهذا الجو يفقد الباحث الأكاديمي قيمته لدى السلطة السياسية التي تُوثر التأثير في المجتمع -وإنْ سلبا- على الكفاءة والمعرفة، فتستقطب المدونين وتُسالمهم، مُحاولةً تضليل المجتمع وتوجيهه من خلالهم. فيُفضي ذلك إلى احتقار المُجتمع – في ظل “الرأسمالية” الطاغية – النخبَ المتعلمة، وجعلها فاشلة في الحياة. وتقوى ثقته في نجاح الفاشلين، فيتّجه الفكر المجتمعي في “اللَّاوعي” إلى الإيمان بعدم جدوى التعلُّم والتّمدرس. الأمرُ الذي يجعل العبء السياسي يخفّ آنيا على السلطة الحاكمة، بحكم اعتقاد المجتمع أن النخبة المتعلمة لا تمتلك مؤهلات تسمح لها بالتوظيف أحرى أن تكون أولى بإدارة الأمور وتوجيه المجتمع. وهو أمر في غاية الخطورة، مؤذن بفشل الدولة وفساد المجتمع، حيثُ يعمّ الجهل وتترسّخ القبلية وتنتشر الحمية والاعتزاز بالجهة والفئة، فيسهُل على الدولة التحكم في مصير المجتمع، والطلاء على أوجاعه. وهو ما قد يُنذر – في المدى المتوسط – بحروبٍ أهلية وتفككٍ مجتمعي.

هكذا تبدو خطورة وسائل التواصل الاجتماعية التي يُنظر إليها كأداة للتواصل محايدة. وسبق أن بيّنا أن الحياد أساس التضليل.

بناء على ما تقدم يعيش المجتمع هرمية مقلوبة.

لا ينتج عن هذه الهرمية التنويم المغناطيسي للمجتمع وحسب، بل ينتج عنها كذلك تنويم المدونين والطامعين الذين شاركوا في عملية التنويم أيضا. كلُّ طبقة أعلى في هذا الهرم تشعر بتنويم الطبقة التي تحتها وتجهل تنويم نفسها.

السلطة تجهل أنها نائمة بسبب فساد الرُّؤية وغياب الاستراتيجية الناجعة، لكنها تُدرك أنها مَنْ تقوم بتنويم المدونين. والمدونون يجهلون أنهم نائمون، ولكنهم يُدركون أنهم يُساهمون في تنويم المُجتمع، والمجتمع يرى أن الأمور تجري بشكل طبيعي، وأنها هي كما يراها هو.

*”فمتى يقذف اليمُّ تابوتَ هذا الضياع”*